العنف الأسري اللفظي

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:عبادَ اللهِ! اتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. عباد الله!كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري معتمدين على دراسة ميدانية متخصصة، وقد بينا في الخطب الماضية أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وأكدنا أنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر متى كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية إليها، وعرجنا في الخطبة الثانية إلى نبذة مختصرة لتاريخ ظاهرة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وسبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وما حجمه في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم في الخطبة الثالثة تناولنا العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف الأسري، وفي الخطبة الرابعة: تحدثنا عنمظاهر وأشكال العنف الأسري التسعة: العنف الجسدي. والعنف الجنسي. والنفسي. واللفظي. والعنف بالإهمال. والعنف الصحي. والعنف الاجتماعي، الاقتصادي. أخيرًا: التاسع من أشكال العنف: العنف الافتراضي، وقد تناولنا بالشرح والتفصيل الشكل الأول والثاني والثالث من أشكال أو مظاهر العنف الأسري بالمملكة، والتي أثبتتها الدراسة الميدانية، هي: لعنف الجسدي والعنف الجنسي، والعنف النفسي، واليوم في الخطبة السابعة: نتحدث عن الشكل الرابع من أشكال العنف الأسري، وهو: العنف اللفظي؛ الذي هو:"كل كلام يوجه إلى الضحية يُقصد منه إيذاءها عن قصد وبشكل متكرر". والذي يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للضحية، ويسيء إلى شخصية الفرد وكرامته، ونظرته لذاته،ويشمل: إهانة الكرامة بكلام جارح، والسباب، والشتائم، والسخرية، والتهديد، والتهديد بالفضيحة بهدف الابتزاز، وإطلاق النعوت والتنابز بالألقاب، وقمع الضحية بكلام يمنعها من التعبير وإبداء الرأي، ولا شك أن للعنف اللفظي تأثيرًا كبيرًا على نفسية الضحية، فتأثير الكلمة يفوق تأثير السوط وحد السيف أحيانًا، وبالأخص حينما تكون الضحية طفلاً أو قاصرًا أو امرأة، ألم يقل الشعر: 
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
ويقول الآخر: لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
إن الدراسة الميدانية تشير إلى غفلة الناس عن تأثير الكلمة الجارحة، وما يترتب عليها من عواقب وخيمة وربما كارثية في حياة الضحية، حيث تشير جداول استبيانات الدراسة الميدانية إلى أن هناك اتفاقًا عامًّا على أن العنف اللفظي يحتل (المرتبة الأولى) من حيث الانتشار في جميع مناطق المملكة، ولعل السبب أن العنف اللفظي أسهل أشكال العنف ارتكاباً من قبل أفراد المجتمع، نظراً لأنه لا يترتب عليه مشاكل جنائية كبيرة خاصة إذا ما قورن بأشكال العنف الأخرى والتي قد يعاقب عليها الشرع والقانون. وأما أشكال العنف اللفظي التي أثبتتها الدراسة ميدانياً؛ فيتبيَّن من النتائج أن نحو أربعة وثمانين بالمائة (84٪) أشاروا إلى أن التوبيخ الشديد منتشر؛ وهذا يعني أن الغالبية العظمى من المبحوثين يؤكدون انتشاره. كما ذكر أكثر من ثلاثة وسبعين بالمائة (73.3٪) أن الاستهزاء والتحقير من أشكال العنف اللفظي الأكثر انتشارًا. كما أن أكثر من ثمانية وسبعين بالمائة (78.2٪) أشاروا إلى أن السَّب والشتم واللعن من أشكال العنف اللفظي أنه منتشر. وأما تهديد الزوجة بالطلاق كأحد أشكال العنف اللفظي فيرى أكثر من ثمانية وخمسين بالمائة (58.3 ٪)، كما يُعَدُّ سبّ الأهل كالوالدين وبعض الأقارب أحد أشكال العنف اللفظي حيث ذهب ثلاث وستون بالمائة (63.1٪) من المبحوثين إلى أنه منتشر. أما السَّب أمام الناس لزيادة التحقير والإهانة فمنتشر أيضاً بنسبة اثنين وخمسين بالمائة (51.8٪) من إجمالي مجتمع البحث. وأما استخدام كلمات نابية فيرى أكثر من أربع وخمسين بالمائة (54.4٪) من المبحوثين أنه منتشر. وهكذا معاشر المسلمين والمسلمات تثبت الدراسات وللأسف مدى انتشار أنماط وأشكال من العنف اللفظي من توبيخ، واستهزاء وتحقير، وسب وشتم ولعن، بل حتى سب الأهل والوالدين وبعض الأقارب، وتهديد للزوجة بالطلاق أو الزواج عليها، وغير ذلك من الصور التي ربما كانت أمام الناس وعلى مسامعهم، وعلى الرغم من التفاوت بين كل شكل وآخر من أشكال العنف إلا أنها جميعها تنطوي على فاعلية الإهانة اللفظية، والتي تؤدي تدريجياً إلى أشكال الانفصال الوجداني، وهي مرحلة أساسية من مراحل التطور في العلاقة تنتهي بالعنف الجسدي بكافة أشكاله وأنماطه، وتدل هذه النسب المرتفعة نسبيًا لأشكال العنف اللفظي أن ثقافة المجتمع، وتنشئته أفراده غالبًا ما تؤدي إلى مثل هذه التصرُّفات والتي أصبحت لدى البعض نمطاً حياتياً شائعاً اعتادت عليه الألسن وعلى سماعه الأذان. عباد الله! والله إني لأخجل أن أقول مثل هذا الكلام وهذه الأرقام في مجتمع فطرته دين الإسلام، دين الرحمة والرفق والعطف والمشاعر المرهفة، دين أدبياته الشرعية تزخر بالنصوص المقدسة في خطورة اللسان، والتحذير من الشتائم والسباب واللعان، ثم يحتل العنف اللفظي المرتبة الأولى بين أنماط وأشكال العنف في المجتمع، لكنها الحقيقة التي علينا أن نتقبلها بشجاعة رغم مرارتها، فوصف الداء نصف الدواء كما يُقال، ومعرفة الأسباب تفتح لنا الأبواب؛ ومن أهم الأسباب وأخطرها: ضعف الوازع الديني، فإن لم تكن الفضيلة ذاتية نابعة من نفس صاحبها، وإن كانت ضعفت القيم والعادات والعروبة والرجولة التي كانت من شيم العرب والقبائل والرجال، فإن الرقابة السماوية باقية للأبد شاء من شاء وأبى من أبى، فالدين هو المحرك الأول للقلوب بالترغيب تارة وبالترهيب تارة، وبهما معًا تارات، كيف لا وهو يزن مثاقيل الذر، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، ثم يُعلن المراسيم الدقيقة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} إنها رقابة سماوية لصيقة دقيقة لا تدع أي قول إلا أطبقت عليه وقيدته يؤكده قول المصطفى r في صحيح البخاري وغيره قال: ((وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))، فاحذر أيها الإنسان من اللسان فهو يذهب بصلاتك وصيامك وصدقتك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ:((هِيَ فِي النَّارِ)). قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)). فكم من مصل ومتصدق وصالح غره صلاحه وعمله فأطلق العنان للسان يلعن ويسب ويُهدد ويتوعد ويسخر ويستهزأ، فأحبط عمله وسمعته ورجولته! "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ".وقالr: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". وقال عُقبةُ بنُ عامرٍt: قلتُ يا رسولَ الله! ما النَّجاةُ؟ قالr: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)). وقالr محذرًا«إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ 
لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ".وعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ r:"يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ..".إنها نصوص لا تحرك القلوب فقط بل تهز الجبال الصم الرواسي لكن بعض القلوب أقسى من الحجر فهي تسمع مثل هذا الوعيد والتهديد ثم لا ترعوي ولا تستجيب؛ 
احْفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الإِنْسَـانُ لاَ يَلْـدَغَـنَّكَ إِنَّـهُ ثُعْـَبانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيْلِ لِسَانِهِ كَانَتْ تَهَابَ لِـقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
أيها المؤمنون: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} هكذا كان هدي المصطفىrكان غاية في جميل القول والرفق، ولين الجانب وحسن الخلق،فأنسtخدم النبي r عشر سنين ماسمع من النبيrكلمة نابية قط، كما في الحديث المتفق عليه يقول أَنَسٌt:"خَدَمْتُ النَّبِيَّrعَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي:أُفٍّ، وَلَا لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ؟"،{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، هاهوr يوجه عائشة رضي الله عنها لما ردّت على سب اليهود قائلاً:"مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» البخاري. ويقولr:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ: يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ". وفي صحيح مسلم ((وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ".فإذا أردنا علاج العنف اللفظي ومحوه من قواميسنا أو على الأقل الحد من انتشاره، وتقليص حجمه فلنحرك القلوب لتفعيل وازع الدين فيها، وتذكير الناس بحجم خطورة العنف اللفظي، فالكلمة مسؤولية وعلى الإنسان أن يراقب لسانه، ويعوِّده على الكلمة الطيبة النافعة، فها قد سمعتم الكثير وبقي الكثير الكثير من نصوص الدين التي تُحذر وترفض كل أشكال العنف اللفظي وألوانه فـ"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ "، «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، فشتان شتان بين الرفق وبين العنف، فالكلمة الطيبة صدقة تقود للجنة فقد ضمنها رسول اللهr لمن حفظ ما بين لحييه ورجليه "فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، فلا يمكن للإنسان أن يرتقي ويعلو شأنه إلا بطيب الكلام، والبعد عن الغلظة والفظاظة. فهيا عباد الله لمثل هذه المعاني قبل فوات الأوان، هيا لنغرس هذه المعاني النبيلة في نفوس النشء، لندربهم على طيب الكلام، ونحذرهم من الفحش وبذاءة اللسان، هيا لنراقب ألسنتنا وألسنة أولادنا لرفع الوعي ليكون لين الكلام سائدًا في تعاملنا، لنكن قدوات في بيوتنا فالبيت الذي يعلوه الصراخ والسب والشتم سيخرج أجيالاً بنفس التركيبة، وفي المقابل الأب الذي يخاطب والديه بأدب ويُحسن القول معهما ومع زوجته وأبنائه سيخرج أجيالاً ترث نفس المواصفات، وهكذا مع الخدم ومع الجار، وفي البيع والشراء ومع الموظف والوظيفة، ومع الجميع، ولعل من أهم العوامل المؤثرة في هذا التطبيق: أولاً/ التربية الأسرية: فتربية الوالدين لها دور كبير في اكتساب الأطفال سلوكيات آبائهم وأمهاتهم. ثانيًا/ الجو المدرسي:فمتى كان الجو المدرسي منضبطاً من قِبل المدرسين وإدارة المدرسة في متابعة سلوكيات الطلاب، والمسارعة لمعالجة أي ظواهر لفظية غير مناسبة تظهر بين الطلاب، فسيتجنب الطلاب هذه المسالك، وإلا فستنتشر هذه السلوكيات اللفظية السيئة بين الطلاب، وتنعكس على شخصياتهم في المستقبل بوضوح. ثالثًا من العوامل المؤثرة/ الحي: فلا شك أن له أثر كبير في تلقي الأطفال لسلوكيات العنف اللفظي بين الأقران السيئين، وعندها فلا بد من متابعة الأبناء فيمن يخالطون فالقرين بالمقارن يقتدي. وأخيراً خلاصة معالم علاج العنف اللفظي ما يلي:1-التحذير منذ الصغر للأولاد من السلوكيات اللفظية السيئة كألفاظ السب والشتم، وعدم السكوت عليها عندما تصدر من الأولاد، وإظهار عدم الرضى لسماعها، وتحذيرهم من الوقوع فيها مرة أخرى.2-اليقين بأن الألفاظ السيئة ليست من خلق المسلم، ولا من شيم الرجال فلا بد من طلب معالي الأمور وتجنب سفاسفها. 3-ربية النفس على الصبر في التعامل مع المواقف الضاغطة وتجنب الغضب وردود الفعل السريعة وغير العقلانية التي تنتج عنفًا لفظيًّا. 4- بث الوعي بخطورة هذا النوع من العنف، وأن الكلمات الجارحة سهام حادة، تنفذ بعنف إلى النفس وتصيبها بجروح نازفة قد لا تبرأ، وإن شفيت فهي تُخلف ندوباً لا تختفي،"فجرح الكلام أنكى من جرح الحسام". 5- تدبر النصوص الواردة ،والنظر بعمق في سيرة المصطفىr، فقد أثنى الله عليه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
}، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها وطهر ألسنتنا وقلوبنا واغفر لنا وتب علينا، ولا تؤاخذنا بضعفناأقول
 ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.
العنف الأسري
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ.أما بعدُ: عبادَ اللهِ! اتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}عباد الله!كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري معتمدين على دراسة ميدانية متخصصة، وقد بينا في الخطب الماضية أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وأكدنا أنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر متى كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية إليها، وعرجنا في الخطبة الثانية إلى نبذة مختصرة لتاريخ ظاهرة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وسبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وما حجمه في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم في الخطبة الثالثة تناولنا العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف الأسري، وفي الخطبة الرابعة: تحدثنا عن مظاهر وأشكال العنف الأسري التسعة: العنف الجسدي. والعنف الجنسي. والنفسي. واللفظي. والعنف بالإهمال. والعنف الصحي. والعنف الاجتماعي، الاقتصادي. وأخيرًا: التاسع من أشكال العنف: العنف الافتراضي، وقد تناولنا بالشرح والتفصيل الشكل الأول والثاني من أشكال أو مظاهر العنف الأسري بالمملكة، والتي أثبتتها الدراسة الميدانية، وهما: العنف الجسدي والعنف الجنسي، واليوم في الخطبة السادسة: سنتحدث عن الشكل الثالث من أشكال العنف الأسري، وهو: العنف النفسي؛ والذي يُعرّف بأنه: كل ما يسبب أذًى معنويًا للضحية يمارسه أقارب تجاه أقاربهم فهو يُعد عنفًا نفسيًّا أسريًّا، كترويع الضحية وإخافتها، وممارسة ضغوط نفسية عليها، أو عزلها وعدم الحديث إليها، ومنعها من الكلام، ومنعها من الخروج، ويشمل أيضًا: هجر الزوج زوجته، أو الزوجة زوجها دون عذر شرعي، والْحَجر على التصرف بدون وجه حق، والخيانة الزوجية؛ ومن صور العنف النفسي أيضًا: الحرمان من حق مشروع، كحرمان المطلَّقة من رؤية أبنائها، أو حرمان الزوجة من زيارة أقاربها واستقبالهم، أو حرمان الطفل من رؤية أحد والديه بسبب الطلاق أو الانفصال، أو إجبار بعض أفراد الأسرة إلى قطع صلة الرحم مع أقارب بهدف إيذاء أحد الأطراف أو الطرفين، وباختصار: العنف النفسي هو: كل قول وفعل من شأنه التحقير أو الإهانة أو منع حق ونحوه، ولا شك أنها أعمال محرمة شرعًا، ومرفوضة عقلاً، وضارة ومضرة للأفراد والمجتمعات، ولا أحد يرضى بالضرر لنفسه ولا لغيره؛ والله تعالى يقول: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}. ويقول r: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، ومن المؤسف يا عباد الله! أن تفشي مثل هذه الصور أمر مشاهد وملموس، تؤكده النسب العالية من الأرقام والإحصاءات لأمراض الاكتئاب والانطواء والقلق وسائر الأمراض النفسية المنتشرة، فنحن نعيش في عصر يعج بممارسة هذا النوع من العنف، والذي له أضرار كبيرة وخطيرة، بل له نتائج وخيمة في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، ومثل هذه الأساليب يستخدمها البعض بغية الضغط والتأثير على الآخرين، وإخافتهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، من أجل الانصياع له ولطلباته لتحقيق أهدافهم ومآربهم، فالعنف النفسي صورة من صور القهر ضد الآخرين كوسيلة متاحة من وسائل الضغط بفعل عوامل نفسية قد يتعرض لها المُعنِّف من قبل المجتمع؛ كضغوط العمل، والضغوط المادية والاقتصادية، وقضايا الاستهلاك والدخل ومستوى المعيشة، وغيرها من الأسباب التي تدفع الإنسان إلى ممارسة هذا النوع من العنف. وقد أظهرت نتيجة استبانة الدراسة أن ثلاث مناطق من بين خمس مناطق في المملكة اتفقت على أن العنف النفسي يمثِّل المرتبة الثانية في الانتشار، وهو يأتي بعد العنف اللفظي مباشرة، مما يعني أن هذا النوع من العنف منتشر إلى حد كبير، وبأشكال وأنماط متعددة؛ فقد أظهرت نتائج الدراسة أن نحو اثنين وسبعين بالمائة (72٪) من إجمالي مجتمع البحث يرون أن قمع الأبناء أو الزوجة وعدم تركهم يعبرون عن مشكلاتهم بحرِّية كأحد أشكال العنف النفسي منتشر. كما تُظهر النتائج الميدانية أن نحو ستة وخمسين بالمائة (56٪) يرون أن حرمان الزوجة من رؤية بعض الأقارب أو زيارتهم منتشر. كما توضح النتائج أيضًا أن ما نسبته تسعة وأربعون بالمائة (49٪) ذهبوا إلى أن عدم الحديث مع بعض أفراد الأسرة بهدف هجره منتشر كأحد أشكال العنف النفسي. وأشار أكثر من ثمانية وعشرين بالمائة (28.3٪) إلى أن هجر الزوجة من قِبَل الزوج لإيذائها نفسيًا منتشر جدًا، بينما نحو أربعين بالمائة لا يعلمون أو يرون أنه نادر جدًّا. وتُبيِّن النتائج أن أكثر من خمسة وعشرين بالمائة (25.6٪) أشاروا إلى أن تخويف بعض أفراد الأسرة وترويعه كأحد أشكال العنف النفسي منتشر جدًا، مقابل ثلاثة عشر بالمائة (12.9٪) أشاروا إلى أنه نادر جدًا. وهكذا إخوة الإيمان تؤكد الأرقام وجود أشكال متعددة للعنف النفسي، لعلكم تلاحظون أن العامل المشترك بين هذه الصور هو تسلط البعض من الذكور وإن لم يشعروا بذلك، حيث يشب الأفراد على تعلُّم أنماط سيئة دون أن يدركوا أنها كذلك، وربما نتيجة لفهم خاطئ للقوامة الشرعية التي لا يجوز للرجل أن يتنازل عنها بل يأخذها بحقها من الأمانة والمسئولية خلاصتها: (قوة في الدين، وشدة في لين) فـ«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، و«مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ»، هكذا توجيه المربي والمعلم الأول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فلاشك أن العلاج والقضاء على هذا النوع من العنف يكمن في التربية،فالدافع الرئيس لهذا النوع من العنف هو: الاستعلاء، ونظرة الدونية للغير، فإذا استطعنا استئصال هذه الفكرة المريضة من عقلية الناس وثقافتهم فقد قضينا على هذا النوع من العنف على مستوى الجذور، وعالجناه على مستوى الأسباب، فالفرد منا حين يعتقد جازماً أن للآخرين حقوقًا مثله، وأنه ليس هناك أحد فوق الشريعة والنظام والقانون حتى ولو كان مسئولاً كبيرًا، أو رئيسًا للأسرة، أباً أو أخاً أو زوجًا ونحوهم، فليس له التضييق على الآخرين، أو ممارسة العنف النفسي عليهم، فهو لا يرضى أن يُضيق عليه أحد أو يُعذَّب نفسيًّا من قبل آخرين، فإذا كان لا يرضى لنفسه فكيف يرضاه لغيره؟ وما أروع ما قاله الإمام الحافظ أبو سليمان الخطابي: 

ارضَ للناسِ جميعًا مثلَ ما ترضى لنفسِكْ


إِنما الناسُ جميعاً كُلُّهمْ أبناءُ جنسكْ


غير عدل أن تَوَخَّى وحشةَ الناس بأُنسكْ


فلهم نفسٌ كنفسِكَ ولهم حِسٌّ كحِسِّكْ

عباد الله! إن أخطر ما يهدد الاستقرار الأسري هو العنف النفسي والكبت، وعدم السماح للبوح بالمشاعر التي تختلج في صدر أحد أفراد الأسرة، مما يسبب تخزين المشاكل، ومن ثَمّ تضخيمها، وربما انفجارها في أي لحظة، ولذا يعتبر العنف النفسي مجالاً خصبًا، ومصدرًا كبيرًا لأنواع من العنف، فالعنف كما يقولون يولِّد العنف، وبالاحترام المتبادل، ونشر ثقافة الحوار الهادئ، ومعرفة حقوق الآخرين وحريتهم لممارسة حياتهم الاعتيادية مادامت في غير سخط الله، ولم تتجاوز الحرام والمحظور، فكل هذه أمور ومعانٍ رائعة تقضي على العنف النفسي وتقوض أركانه، فمن هذا المنبر أدعو الجميع لنشر معرفة الحقوق والواجبات، فكلٌ يتمتع بحقوقه، ويؤدي ما عليه من واجبات، وهنا لا أحنث إن أقسمت أننا لو طبقنا هذا المبدأ لم نترك من الخير مطلبًا، ولم ندع للشرور مجالاً، بل حزنا الخير بحذافيره، ولنا برسولنا e أسوة، فلنقرأ كيف كانت معاملته لأصحابه وآل بيته وأزواجه، وكيف كان يحترمهم ويحترم مشاعرهم النبيلة ويراعيها، لقد عَجب شراح حديث أم زرع لحسن خلق النبيe بصمته وإصغائه واستماعه تلك القصة الطويلة من عائشة بدون مقاطعة أو ملل، ثم قولهr لعائشة في نهايتها: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ" أي: في الوفاء والاحترام وحسن المعاملة، فقد كان أبو زرع مع أم زرع بهذه الصورة. فكان الرد الجميل والذكي من عائشة رضي الله عنها كما في بعض الروايات بأنها قالت: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! بل أنت خير إليَّ من أبي زرع لأم زرع؟" يقول الحافظ ابن حجر:"وفي الحديث من الفوائد: مداعبة الرجل أهله، وإعلامه بمحبته لها، ما لم يؤدّ ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه، وإعراضها عنه". إخوة الإيمان! إنَّ دينكم الإسلام بلغ الكمال في هذا المجال كما بلغه في كل مجال، علمه من علمه وجهله من جهله، فإنك لتعجبُ ولا ينقضي العَجَب من عَظَمَةِ هذا الدينِ ودِقَّة مراعاتِهِ للمشاعِرِ والعواطِف والأحاسيس، وحرصِهِ على نَشرِ المحبَّةِ والمودَّة. فهناك عشرات الأدلة في هذا الباب! اسمعوا مثلاً لهذا الحديثِ فعن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت، قال النبي r:"إذَا أَحْدَثَ أحدُكم في صلاتِهِ فليأخُذ بأنفِهِ ثم ليَنصَرِف". أتدرون لماذا يأخذُ بأنفه، وما علاقةُ الأنفِ بما صنع؟ إنها عظمةُ أدب هذا الدِّين، ودقَّة العناية بمشاعرِ النفسِ، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذُ بأنفِه ليوهِمَ من بجوارهِ أنَّ به رعافاً فلا يفتضحُ أمرُهُ فيُحرَج ويخجَل! قال الخطابيُّ في شرح الحديث: "إنَّما أمرَهُ أن يأخذُ بأنفه ليوهِمَ القومَ أنَّ به رُعافًا، وفي هذا البابِ من الأخذِ بالأدبِ في سَترِ العورةِ وإخفاءِ القبيحِ والتوريةِ بما هو أحسنُ منه، وليس يدخل في بابِ الرِّياءِ والكَذِبِ، وإنما هو من بابِ التجمُّلِ واستعمَالِ الحياءِ، وطلبِ السَّلامةِ من الناس". يا الله! ياله من دين عظيم، لو أخذ به أهله، فالإسلام دين يأمر بالإحسان لكل شيء حتى مع الحيوان، كما قال رسولُ اللهr: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". فإنْ كانتِ الرَّحمةُ والإحسانُ تصِلُ إلى هذهِ الدَّرجةِ من الرِّفقِ وحسنِ التعاملِ حتى معَ الحيوانِ عند ذبحه، فكيف بالرَّحمة والإحسانِ مع بني الإنسان. سبحان الله دين يراعي المشاعر والأحاسيس حتى مع الحيوان إلى هذا الحد كيف يُتوقع أن يمارس البعض من أفراده العنف النفسي والعذاب الوجداني مع الآخرين! وربما مع أقرب الناس إليه من زوج أو فلذات أكباد. أيها الإخوة والأخوات: تأملوا وقفوا طويلاً مع هذا الموقف، فمن المعلوم أن من ألد أعداء الرسول والمسلمين أبو جهل حتى لقبه النبي r بفرعون هذه الأمة لشدة عداوته ونكايته بالمسلمين، وابنه عكرمةُ بن أبي جَهْل، وَرِثَ عداوةَ الإسلامِ عن أبيه، وقاتَلَ المسلمين في كلِّ موطِنٍ، وتصدَّى لهم يومَ فتحِ مَكَّة، ثم فَرَّ إلى اليَمَن، بعد أن أَهدَرَ النبي rدمَه، فتأتي زوجُه أمُّ حكيم بعدَ إسلامها لرسولِ الله تطلبُ الأمانَ لزوجِها فيقولُ لها بأبي هُو وأمّي: "هُوَ آمِن". ولا يكتفي رسول الرحمة بهذا القدر من اللطف والعفو والسماحة لعدو آذى المسلمين كثيرًا، بل ها هو e يؤمنه حتى من العنف النفسي، ومن العذاب الوجداني، يُراعي مشاعره وأحاسيسه فيقول موصيًا أصحابه أن يترفعوا عن الأحقاد وفتح الملفات القديمة التي يضر فتحها ولا ينفع: ((يأتيكُم عكرمةُ بن أبي جَهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبُّوا أباه، فإنَّ سبَّ الميِّتِ يؤذي الحيَّ ولا يبلُغ الميِّت))، فيأتي عكرمةُ بين يدي المصطفىr، ويجد عنده الحضن الدافئ، والرحمة الحانية، والمعاملة الراقية رغم كل ما بدر منه ومن أبيه! فلم يجد بدًّا أمام هذه العظمة في الأخلاق والآداب إلا أن يعلن أمام الملأ فيقول: "أشهَدُ أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّك عبدُه ورسولُه، وأنتَ أبرُّ النَّاس، وأصدَقُ الناس، وأوفى النَّاس، أما والله يا رسولَ الله لا أدَعُ نفقةً كنتُ أنفقُها في الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ إلا أنفقتُ ضعفهَا في سبيلِ الله، ولا قاتلتُ قتالاً في الصدِّ عن سبيلِ الله إلا أبليتُ ضعفَهُ في سبيلِ الله"! سبحان الله! لمسةٌ حانيةٌ من نبيِّ الرحمة r نقلَتْ ابنَ فرعون هذِهِ الأمَّةِ إلى صفِّ أولياءِ الرَّحمن، وجعلته يندَم هذا النَّدَمَ، ويعزِم هذا العزمَ، ويتحوَّل هذا التَّحوُّلَ، إنَّها الأخلاقُ تصنعُ الأعاجيبَ! أيها المؤمنون: أرقام وإحصاءات، وشواهد وصور ميدانية، ونصوص ومواقف نبوية، لا يملك معها المسلم العاقل إلا أن يُراجع نفسه وتصرفاته وحقوق الآخرين ممن هم أمانة في عنقه وحمله الله مسئوليتهم، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، وأخيرًا والمهم في الباب: كيف نسمو بمشاعرنا، وكيف نقهر أنفسنا الأمارة بالسوء، فلا نسمح لها بإيذاء الآخرين سواء بدنيًّا أو نفسيًّا، وكثيرًا ما تكون الثانية أكثر إيلامًا وأقسى من الأولى. اللهم زَكِّ أنفسَنا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، وآتها صلاحها وتقواها، رب أعنا وتب علينا وارحمنا، اللهم اجعلنا من الرحماء، وارزقنا الرفق واللطف، وأعنا على أنفسنا، ولا تكلنا إليها أو لأحد من خلقك طرفة عين، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ.أما بعدُ:عبادَ اللهِ! اتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. عباد الله! كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري معتمدين على دراسة ميدانية متخصصة، وقد بينا في الخطب الماضية أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وأكدنا أنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر متى كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية إليها، وعرجنا في الخطبة الثانية إلى نبذة مختصرة لتاريخ ظاهرة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وسبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وما حجمه في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم في الخطبة الثالثة تناولنا العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف الأسري، وفي الخطبة الرابعة: تحدثنا عن مظاهر وأشكال العنف الأسري التسعة: العنف الجسدي. والعنف الجنسي. والنفسي. واللفظي. والعنف بالإهمال. والعنف الصحي. والعنف الاجتماعي. والاقتصادي. وأخيرًا: التاسع من أشكال العنف: العنف الافتراضي، وقد تناولنا بالشرح والتفصيل الشكل الأول والثاني والثالث من أشكال أو مظاهر العنف الأسري بالمملكة، والتي أثبتتها الدراسة الميدانية، وهي:العنف الجسدي والعنف الجنسي، والعنف النفسي، والعنف اللفظي واليوم في الخطبة الثامنة؛ سنتحدث باقي الأشكال للعنف بدءاً بالشكل الخامس من أشكال العنف الأسري، وهو: العنف بالإهمال؛ والذي هو:"الترك والتخلي سواء كان عن عمد أو عن غير عمد. والْهَمَل من الإبل هي التي لا راعي لها، ونتيجة الإهمال هي: الضياع المحتم، ومن هنا جاءت نصيحة الشاعر:

قَدْ هَيَّئُوكَ لِأَمْرٍ لَوْ فَطِنْتَ لَهُ ... فَارْبَأْ بِنَفْسِكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الْهَمَلِ


ترجو البَقاءَ بدارِ لا ثَباتَ لها فهل سَمِعْتَ بظلٍّ غيرِ منتقلِ

ويتجلى هذا النوع من العنف في صور منها: إهمال رعاية الضحية صحيًا، كعدم الاهتمام بتغذيته، أو عدم الاهتمام بتعليمه، أو عدم تلبية احتياجاته الضرورية، أو حرمانه من العطف والحنان؛ومن صور الإهمال الشائعة: عقوق الوالدين، وعدم طاعتهما في غير معصية الله تعالى ،وهجرهما، وزجرهما، والتلفظ عليهما بألفاظ نابية، وعدم الإنفاق عليهما من قِبَل الأبناء مع قدرتهم على ذلك مما يُلْحِق بالوالدين أذىً ماديًا ومعنويًا. عباد الله! إن العنف بالإهمال محرم شرعًا، ومرفوض عقلاً، ومدان عادة وعرفًا، فالمهمل خان الأمانة، وغير أمين على ما ائتمن عليه، وسيسأل أمام الله كل من مارس هذا النوع من العنف ممن أنيطت إليه مسؤولية الرعاية فأهملها، كما قالr: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ"،وقالrأيضًا: "مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ إِلَّا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ". ويقول أيضًا: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ مَسْئُولَةٌ.."متفق عليه. فيا من أهملت هل أعددت لهذا السؤال جواباً؟! وهل الجواب صواب؟ إخوة الإيمان: كثيرًا ما يتداخل مفهوما الإهمال والحرمان، وتتشابه بعض صورهما، فما الفرق بينهما؟ والجواب: أن الإهمال قد يكون غير مقصود، بينما يكون الحرمان مقصودًا، ويدخل تحت المفهومين بشكل عام تعمُّد إهمال الحقوق المكفولة شرعًا، سواء كانت اجتماعية، أو نفسية، أو صحية، أو تعليمية، أو حاجات مادية ضرورية، أو الحرمان من العطف والحنان. فما مدى انتشار أنماط وصور العنف بالإهمال؟ توضح نتائج الدراسة الميدانية:أن عقوق الوالدين وعدم البِرِّ بهما هو أحد أشكال العنف بالإهمال منتشر بنحو خمس وخمسين بالمائة (54.7٪) بين عينة الدراسة، كما أن عدم الإنفاق على الوالدين مع القدرة على الإنفاق منتشر جدًا بنحو ثلاثين بالمائة (29.9٪) بين المبحوثين، ثم عدم تلبية حاجات الأبناء الضرورية مع القدرة على تلبيتها كأحد أشكال الإهمال منتشر بنحو واحد وأربعين بالمائة (41.2٪)،كما تُظهر لنا نتائج الدراسة أن ما نسبته واحد وثلاثون بالمائة (31.1٪) أشاروا إلى أن إهمال الرعاية الصحية لبعض أفراد الأسرة كأحد أشكال الإهمال منتشر. هذه أبرز أرقام الدراسة حول العنف بالإهمال، فإهمال الأولاد أو الوالدين بشكل أساسي يُعَدُّ من أشكال العنف الأسري المنتشرة في المجتمع، وقد يُعْزَى ذلك إلى انشغال أفراد الأسرة بمتطلبات الحياة، وسعيهم الدائم خلف المادة لإشباع احتياجات جديدة تولدت في الوقت الراهن، إلا أن هذا لا يبرر الإهمال أبدًا، مما يجب أن تسترعي هذه الأرقام انتباهنا وانتباه المربين والمعنيين وكل مهتم بشأن الأسرة والمجتمع، فالإهمال الواقع على الأولاد ربما ولّد الإهمال الواقع على الوالدين، إذًا هو عقوق يقابله عقوق، وكلا الأمرين خطير، فعقوق الوالدين وعدم القيام بحقهما مع القدرة عليهما شيء غريب وطارئ في ديننا وثقافتنا، فالعرف والعادة فضلاً عن الدين يُؤكد حق الكبير الأجنبي فضلاً عن الوالدين، مما يشير إلى تأثر هؤلاء العاقين بالثقافات الدخيلة والغربية والتي تغزونا صباح مساء عبر القنوات وشبكات الاتصالات وغيرها من وسائل وتقنيات، فإلى عهد قريب كان عقوق الولدين نادر الحصول، وشيئًا غريبًا بفضل من الله ثم بتعاليم ديننا الحنيف والذي قرن بين أعظم حق لله -وهو التوحيد- وبين حقوق الوالدين، كما قال سبحانه:{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}فعقوق الوالدين ذنب يحول دون دخول الجنة كما قال الصادق المصدوقr: "لا يدخل الجنة قاطع"، وعن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr: "ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَمُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى". ولا شك أن من أهم أسباب البر هو: التربية والرحمة وحسن التعامل مع الأولاد والرفق بهم، كما قال الحق:{يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ}، فالعنف بالإهمال في حقوق الأولاد غالباً ما يُقابله عقوق، فمن عق ولده صغيرًا، غالبًا ما يعقه الولد كبيرًا، ويمكننا تقسيم العنف بالإهمال الواقع على الأولاد إلى خمسة أنواع: 1-الإهمال العاطفي: وهو عدم إشباع حاجات الولد العاطفية الضرورية مثل:الحب والتقدير، والتقبيل والاحتضان ونحوه، يقابله تعريض الطفل لمواقف عاطفية سلبية مثل: السماح له بمشاهدة المشاجرات بين الوالدين. 2-الإهمال الطبي: وهو عدم توفير العلاج أو الرعاية الطبية اللازمة للولد. 3-الإهمال الجسدي وهو: الإخفاق في حماية الولد من الأمور الخطرة، أو عدم توفير الحاجات الأساسية مثل المأكل والمشرب والمسكن, أو تركه وحيدا بدون إشراف. 4-الإهمال التعليمي التربوي، وهو: عدم توفير التعليم الأساسي، أو رفض تسجيل الطفل في المدرسة أو عدم متابعته دراسيًّا. 5-الإهمال الفكري: وهو الإخفاق في تشجيع الطفل على المبادرات المفيدة, مثل المسؤوليات الفردية أو الجماعية أو سلب حقوقه أو ممتلكاته الفكرية. أيها الآباء والأمهات! إذا أردتم صلاح الذرية وبرهم، وعدم عقوقهم، فلا بد من السعي لفعل الأسباب حتى تكون نعمة الأولاد منحة وعطاء فعلاً، وكم من أب انقلبت المنحة في حقه محنة، والعطاء شقاء، لم يُحسن إليهم فلم يحسنوا إليه بالبر جَزَاءً وِفَاقًا، {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}لقد انشغل أقوام بتنمية أموالهم ورعايتها وزيادتها، فأشغلوا أفكارهم وأبدانهم عن رعاية أولادهم وبناتهم، وقد قيل: "إن أول من يتعلق بالرجل زوجته وأولاده فيوقفونه بين يدي الله عز وجل فيقولون :يا ربنا خذ لنا حقنا من هذا الرجل ،فإنه لم يُعلمنا أمور ديننا" أيها الأب الكريم!هل حفظت صغارك أم ضيعت؟ فالرسولrيقول: «إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ؟ حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ»، فيا أيها الآباء:الله الله بالوصية التي أوصاكم بها الله، فإنكم تقرءون: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وفي الأثر:"إن الله يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده" وقال ابن القيم: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قبل الآباء". معاشر الآباء: إن بعض الآباء لا يزال بعيدًا عن أولاده، ولا تشغله قضية التربية، وإن اهتم فجل همه في توفير العيش الأحسن لهم، وأما التوجيه والمتابعة، والنصح والإرشاد، ومعرفة نفسياتهم ومشاكلهم التي يعانون منها، فقضية لا يعير لها اهتمامًا الكثير من الآباء مع الأسف الشديد، مع أنها أمور لها تأثيرات مصيرية، وأن التقصير فيها أشد من التقصير في توفير العيش الحسن. اعلموا يا كل والد ووالدة أن من أهم أسباب صلاح الذرية: التربية الصالحة، والقدوة الحسنة، ودعاء الوالد بصلاح الذرية، ودوام المتابعة والمراقبة، وبالمقابل فإن من أهم أسباب فساد الذرية: إهمال الوالد لتربيتهم، وحرمانهم من حقوقهم، وكون الأب قدوة سيئة لهم، وعدم متابعتهم ومعرفة أحوالهم. أيها الآباء! إن الوالد المسلم الحصيف يعرف كيف يتسرّب إلى نفوس أبنائه، ويغرس فيها الحكمة والخلق القويم، مستخدماً في ذلك الأساليب التربوية الحكيمة، من قدوة مثلى محبّبة، وتبسّط ومخالطة، وحسن تعهد ومتابعة، ورحمة وتواضع ومفاهمة، وحب اهتمام وتشجيع، وعطف ومساواة وعدل، ونصح وتسديد وإرشاد، كل هذا في لين من غير ضعف، وشدة من غير عنف، وبذلك ينشأ الأولاد في جوّ كله برّ ورعاية وحنان، ومثل هذا الجو لابد أن يعطي أولاداً أبراراً أوفياء، صالحين أسوياء، مفتّحي الأذهان، قادرين على العطاء، مهيئين لتحمل المسؤوليات. وهنا نقول للأبناء: حق الوالدين عظيم وكبير وأمانة ودين مهما قصّروا أو أهملوا فالأمر في حقكم ليس جزاء أو وفاء بل واجب ودين ومسئولية عظيمة ألستم تقرأون في القرآن: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ}[لقمان:15]، وهل بعد الشرك ذنب؟ فلا يجوز للأبناء التقصير في حق الآباء والأمهات بحجة أنهم قصروا أو ظلموا فجزاء تقصيرهم وظلمهم على الله فهو يحاسبهم وليس أنت، بل أمرك أنت بالإحسان إليهم، وأمرك بكل صرامة أن لا تنهرهما ولا تقل لهما ولا كلمة تغضبهما حتى وإن كانت (أف)، أقول هذا لكل ولد أو بنت شكا لي أبويه أو أحدهما وحاول الإساءة إليهما أو حتى إهمالهما بحجة أنهما أهملاني أو بدأ بالعقوق. وأما الشكل السادس من أشكال العنف الأسري فهو: العنف الصحي؛ وهو: كل عمل يقصد به إيقاع الأذى بأحد أفراد الأسرة صحيًّا، وله عدة صور وأشكال، منها: إرهاق الزوجة بالحمل والإنجاب مع ثبوت تضررها طبّياً وعلم الزوج بالضرر، وأيضاً عدم تقديم الرعاية الصحية لأحد أفراد الأسرة، ومنعه أو إعاقته عن الحصول عليها، أو دفع الضحية إلى تناول مواد مضرة بالصحة كالأطعمة والمشروبات الفاسدة، أو التي لا تناسب سِن الضحية، أو إجبار الضحية على الإقامة أو العمل أو النوم في ظروف غير صحية؛ أو إيلام الضحايا بإحداث إعاقات بأجسادهم سواء مؤقتة أو مستديمة لدفعهم إلى التسول بهدف التكسب من ورائهم، وإجبارهم على العمل في ظروف وسن غير مناسبة نظامياً. هذه أبرز صور العنف الصحي فما مدى انتشارها؟ توضح نتائج الدراسة الميدانية أن إرهاق الزوجة بالحمل والولادة وصحتها سيئة منتشر بنحو ثمان وثلاثين بالمائة من المبحوثين (38.6٪)،كما تبرز النتائج أن عشرين بالمائة فقط من المبحوثين (20٪) أشاروا إلى أن إطعام بعض أفراد الأسرة أطعمة أو مشروبات سيئة ومضرة بالصحة منتشر. وأن نحو عشرين بالمائة (19.9٪)من المبحوثين ذهبوا إلى أن إحداث إعاقة أو ضرر دائم في الجسم منتشر، كما يرى أقل من سبع بالمائة فقط (6.8٪) من العينة انتشار إجبار بعض أفراد الأسرة على النوم في أماكن غير مناسبة كأحد أشكال العنف الصحي. ومن القراءة التحليلية للنتائج يتضح: أن العنف الصحي غير منتشر بدرجة كبيرة في المجتمع السعودي، مما يدل على وعي المجتمع بمخاطر هذا النوع من العنف غير المقبول تماماً من المجتمع، ولا شك أن للوازع الديني دورًا بارزًا في الحدِّ من العنف الصحي. وأما الشكل السابع من أشكال العنف الأسري؛ فهو:العنف الاجتماعي؛كمنع الفتاة من الزواج في سن تؤهلها له، وعضْلها من قِبَل الولي، ومنعها أو إعاقتها من العمل الشريف دون مبرر، وطلاق الزوجة من زوجها وهما راغبان ببعضهما، أو دفع الابن لتطليق زوجته دون مبررات شرعية كافية، وتعليق الزوجة بهدف الانتقام منها والإضرار بها، فهذه بعض صور العنف الاجتماعي فما مدى انتشارها في المجتمع؟ فيتضح من نتائج الدراسة أن نحو ستين بالمائة من العينة (59.5٪) أشاروا إلى أن تفضيل الأبناء الذكور على الإناث هو أحد أشكال العنف الاجتماعي المنتشرة بالمجتمع،كما ذهب أكثر من خمسين بالمائة من العينة (50.5%) أن إعاقة زواج البنات دون مبررات كافية منتشر كأحد أشكال العنف الاجتماعي. كما تبرز النتائج أن منع المطلَّقة من رؤية أبنائها منتشر بنحو ثمان وخمسين بالمائة (57.9٪)من إجمالي أفراد العينة. وأيضاً تُظْهِر النتائج أن نحو خمس وخمسين بالمائة (55.4٪) أشاروا إلى أن منع الأبناء من رؤية أمهم المطلَّقة منتشر، كما يرى نحو واحد وخمسين بالمائة (51.3%)من المبحوثين أن تعليق الزوجة وعدم تطليقها لإذلالها من أشكال العنف الاجتماعي المنتشرة، وأيضاً فإن من أشكال العنف الاجتماعي الأقل انتشارًا دفع الابن لتطليق زوجته تحت ضغط العائلة حيث يرى أكثر من ثمان وأربعين بالمائة (48.7)٪) من أفراد العينة أنه غير منتشر، والخلاصة أن أشكال العنف الاجتماعي كلها ترتبط بالعادات والتقاليد في الأسرة العربية، وبتسلط البعض على المرأة واستغلال القوامة بشكل خاطئ، مع أن الدين نهى وحذر من هذه الممارسات الظالمة وكثيراً ما رفع القضاء الشرعي هذه المظالم وردها الحقوق إلى أهلها متى ما وصلته وحلت بساحته والتي يتردد الكثير من رفعها للمحاكم والقضاء لأسباب اجتماعية وأسرية. أما الشكل الثامن من أشكال العنف الأسري:العنف الاقتصادي:كالاستيلاء على مال وراتب الزوجة أو الابنة أو الابن، والتصرُّف فيه دون موافقة، أو تحت الضغط الشديد، أو منع المرأة من التصرف بمالها وممتلكاتها، أو منعها من الحصول على حقها الشرعي في الميراث، أو الانتقاص منه أو إنكاره عليها،أو الضغط عليها وإجبارها على الاقتراض من البنوك، أو على الشراء بالأقساط، وغير ذلك من الممارسات التي يترتب عليها خسائر ومسؤوليات مالية تقع المرأة ضحية لها حال عدم السداد. فما مدى انتشار هذه الصور من العنف الاقتصادي في المجتمع؟ توضح نتائج الدراسة أن الاستيلاء على ميراث المرأة من قبل أقاربها الذكور يُعَدُّ أحد أشكال العنف الاقتصادي المنتشرة في المجتمع بنسبة واحد وخمسين بالمائة (51.1٪) من إجمالي العينة، كما توضح النتائج أن أكثر من خمس وخمسين بالمائة (55.5٪) من المبحوثين يرون أن الاستيلاء على مرتب الزوجة أو القريبة من قبل الرجل منتشر. وأيضاً تبرز النتائج أن عدم الإنفاق على الزوجة أو التقتير مع القدرة على الإنفاق منتشر بنسبة سبع وأربعين بالمائة (46.9٪) من العينة، كما تظهر النتائج أن الاستيلاء على ممتلكات أقارب أيتام قُصَّر أو مُسنِّين يُعَدُّ أحد أشكال العنف الاقتصادي المنتشرة بنحو اثنين وأربعين بالمائة من المبحوثين(42.2٪)، أما دفع المرأة للاقتراض من البنوك أو الشراء بأقساط لأقاربها الذكور فيرى نحو سبع وعشرين بالمائة (26.8٪) من العينة أنه منتشر جدًا، بينما ستة وثلاثون بالمائة (36.2٪) من المبحوثين لا يعلمون بمدى انتشار هذه الممارسة ويرون أنه نادر جداً. والخلاصة:أن العنف الاقتصادي من أكثر الأشكال انتشارًا؛ ويرجع ذلك إلى تأثير المتغيرات الاقتصادية، وخاصة انتشار القِيَم المادية التي هيمنت على العلاقات الأسرية، فيجب هنا التنبيه والتأكيد على أن للمرأة المسلمة ذمة مالية مستقلة عن زوجها وإخوانها، وأن ميراثها من أبيها وغيره هو حق خاص لها لا يحق لأحد أن يتصرف فيه دون إذنها ورضاها أبدًا، كما يؤكد حرمة ممارسة الضغط عليها بوسائل مختلفة حتى تتراجع عن بعض حقوقها لحساب الأخ أو الزوج كما يفعل البعض، فالشرع ضمن لها هذه الحقوق ولها أن تهب من مالها ما تشاء لأي أحد من زوج أو والد أو إخوة، ونحوه، كما أن لها أن تتحمل برضاها بعض مصاريف البيت بطيب نفس منها؛ لقوله الله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا}فالمسؤولية المالية للأسرة من نفقةٍ وكسوةٍ وسكنى ونحوه هي من مسؤوليات الزوج وحده، مهما كانت الزوجة غنية. ولذا أجاز الشرع للزوجة أن تأخذ من مال زوجها للضروريات بالمعروف دون علمه إذا كان شحيحًا لا ينفق عليها، لكن بشرط مراعاة حال الزوج من يسر وعسر، لقوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}، ولما روى البخاري أن هند بنت عُتْبَةَ قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْ مَالِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».وأما الشكل التاسع والأخير من أشكال العنف الأسري التي أظهرتها الدراسة الميدانية فهو: العنف الافتراضي: وهو نوع من العنف غير المباشر، ويمكن أن يدخل تحت العنف النفسي، كقيام الزوج بإيذاء نفسه، أو القيام بعمل تكرهه الزوجة والأبناء بهدف إيقاع الأذى عليهم؛ مِثل قيامه بذبح حيوان أمام زوجة تخاف مشاهدة الدم المسفوح، وغير ذلك من الأذى الذي لا يتم توجيهه إلى الضحية مباشرة، إلا أن القصْد من ورائه إيذاء الضحية وإخافتها. أيها المؤمنون: هذه أشكال تسع للعنف الأسري مع صوره من خلال الدراسات والأرقام، وهي نافذة علمية تقريبية للميدان الذي نعيشه، ولا شك أنها أفضل من مجرد الآراء العابرة أو التخرصات وكثرة القيل والقال والمناقشات، تحتاج منا لشجاعة وجرأة في معرفة مشاكلنا وتشخيصها بشكل علمي لنقف على الطريق الصحيح للتصحيح، فمعرفة الداء بداية الدواء، نسأل الله أن يُصلح أحوالنا،وأن يؤلف بين قلوبنا،ويوحد صفنا، وأن يسل سخيمة صدورنا، ويطهر قلوبنا وألسنتنا وأعيننا،أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.
بصيص الأمل غير متواجد حالياً  رد مع اقتباس

قديم 2012-04-23, 08:25 PM
بصيص الأمل غير متواجد حالياً  
الآثار السلبية للعنف الأسري

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولاعدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا}، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، إنها التقوى في المعاملات تطبيقًا وممارسة.إخوة الإيمان! كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري بالمملكة قام بها مركز رؤية للدراسات الاجتماعية استشعاراً للأمانة وضخامتها، وللوقوف على الحقائق من الميدان مباشرة ورصدها، ثم وضعها أمام الجميع، وهي دراسة متخصصة مبنية على تحليل استبانات وإحصاءات، ومسح ميداني للواقع، قام بها باحثون متخصصون، ثم تم تحكيمها من قِبَلِ خبراء وفاحصين مختصين، ثم كان تفعيلها والإفادة منها واقعياً وعملياً كنتائج علمية تُشخص الأسباب والعلاج؛ لتكون بين يدي كل أسرة ووالد ومصلح ومثقف وخطيب وصاحب قرار ومؤثر، فطريق الإصلاح الحقيقي يبدأ بمعلومة صحيحة ورؤية واضحة، ولهذا تم نشرها عبر الكتاب المطبوع، والخبر المشاهد والمسموع، والمقال المقروء المفرق والمجموع، فكان لها أثر مبارك ودوي ملموس عند المهتمين والمعنيين، ثم حرصاً على تفعيل دور (منبر الجمعة) المنبر الشرعي ليقوم بواجبه تجاه القضايا الاجتماعية وواقع الناس ونبض الشارع ليس فقط باجتهاد الخطيب ورؤاه الفردية بل يعتمد على البحث الميداني والأرقام والإحصاءات الصادرة من جهات الاختصاص والخبراء فيها، يُضاف إليها التأصيل الشرعي من الكتاب والسنة لتثمر عن خطاب شمولي شرعي اجتماعي، ومن هذا المنطلق قام المركز بتكليف لجنة شرعية بإعادة صياغة الدراسات العلمية ونتائجها كخطاب شرعي يناسب خطبة الجمعة، مدعمة بالنصوص والأدلة، وبأسلوب سهل سلس على أذن السامع العادي، بُغية تعميم الاستفادة منها، وتفعيلاً لتوصياتها، وإيصال نتائجها للجمهور الكريم، فهو المعني الأول توعيةً وتنبيهاً، وقد تحدثنا في الخطب الماضية عن أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وقلنا إنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر إذا كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية الفتاكة إليها، ثم تطرقنا إلى نبذة مختصرة لتاريخ مشكلة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وبيّنا سبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وحجم العنف الأسري في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم تناولنا تعريف العنف الأسري، والأسباب المؤدية إليه، ثم عرجنا على مظاهر العنف الأسري وصوره وأشكاله التسعة بالشرح والتفصيل، وسنواصل الحديث اليوم عن الآثار السلبية للعنف الأسري وبشكل مختصر، فهل تصدقون أن مجمل الآثار السلبية الناجمة عن مشكلة العنف الأسري بلغ خمسة وعشرين أثرًا سلبيًّا، كل واحد منها هو مشكلة اجتماعية بذاته، ولذا سمي العنف الأسري بـ(أم المشاكل) ليتأكد لكل عاقل أهمية وخطورة هذه المشكلة والسعي بمحاربتها، لكن ما الحيلة إذا استشرى هذا الداء في كيان المجتمع كما سمعتم بالأرقام ومن اعترافات المبحوثين وأحوالهم، فالآثار السلبية للعنف الأسري كما أثبتتها الدراسة هي كالتالي: 1-أن تطلب الزوجة الطلاق.2- أن يطلِّق الزوج الزوجة.3-أن يتمرد الأولاد على أبيهم. 4- أن تكره الأخوات إخوتهم. 5- أن تكره الزوجة أهل زوجها. 6 أن يسافر الزوج إلى الخارج كثيرًا.7-تغيُّب الزوج المستمر عن المنزل. 8- أن تخون المرأة زوجها.9- أن تهمل المرأة بيتها.10-أن يهرب الأولاد من المنزل.11-أن تهرب الزوجة إلى بيت أهلها. 12-أن يفشل الأبناء في دراستهم.13-عدم قدرة الزوج على الانتظام في عمله وتغيبه.14- صراع الأبناء داخل المنزل.15-ضعف الوازع الديني عند الزوج.16-ضعف الوازع الديني عند الزوجة.17- ضعف الوازع الديني عند الأبناء.18-إحداث عاهة مؤقتة أو دائمة. 19-التسبب في أمراض واضطرابات نفسية.20-العنوسة.21-القتل للانتقام.22- تعاطي المخدرات هروبًا من الواقع.23-انحراف سلوكي.24-انحراف أخلاقي.25-تأخر دراسي، ورسوب. خمسة وعشرون أثراً سلبياً ناجمة عن العنف الأسري خلصت الدراسة إليها، وإليكم تفصيل أهمها بالأرقام؛ فأهم وأول الآثار السلبية للعنف الأسري: أن تطلب الزوجة الطلاق، حيث أشار إلى ذلك نحو خمس وثمانين بالمائة من المبحوثين (84.7٪)، وكفى بهذه النسبة الكبيرة ضررًا وفسادًا على الأسرة والمجتمع معًا، فالعنف من أول أسباب الطلاق في المجتمع، روى مسلم في صحيحه عَنْ جَابِرٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِr:"إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَاصَنَعْتَ شَيْئًا،قَالَ:ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ:مَاتَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ،قَالَ فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ:نِعْمَ أَنْتَ،فَيَلْتَزِمُهُ"، أي يعانقه إعجابًا بما صنع. ثاني الآثار السلبية للعنف الأسري: التسبب في أمراض أو اضطرابات نفسية حيث أشار إلى ذلك ثمانية وسبعون بالمائة من العينة (77.9٪)، ولاشك أن هذا خطير فلا تسأل عن حال شخص يعيش حالات بئيسة واضطرابات نفسية، كيف يحيا وكيف يكون عضوًا فاعلاً في الأسرة والمجتمع؟! وهذا ما أوردته الدراسة تحت فصل الدراسات السابقة، ومنها ثلاث دراسات([1][1]) أكدت على أن العنف الأسري يولِّد سلوكًا عدوانيًا عند الطفل، وتبولاً لا إرادياً، وتأخرًا دراسيًا، وانتشار عدد من المشكلات النفسية كظاهرة قضم الأظافر، بل أكّد أكثر ضحايا العنف الذين أجريت معهم مقابلات شخصية متعمقة على فداحة الآثار النفسية والبدنية التي لحقت بهم من جراء السلوك العنيف على اختلاف جنسهم. وثالث الآثار السلبية من وجهة نظر المبحوثين هو: التأخر الدراسي، أو الرسوب؛ حيث أشار إلى ذلك نحو أربعة وخمسين بالمائة (74.3٪)، وهذا يحمل في طياته تحذيرًا كبيرًا لمن يمارسون العنف وخاصة على النشء والأطفال، فهم بفعلهم يجعلون الأولاد كَلاًّ ووبالاً على الأسرة وعلى المجتمع، ويمنعونهم من حق التعليم الذي هو نور لهم:

فالعلم يبني بيوتًا لا عماد لها والجهل يهدم بيت العز والكرم

رابع الآثار السلبية هو تعاطي المخدرات هروبًا من الواقع حيث أشار إلى ذلك أربعة وسبعون بالمائة من المبحوثين (74.2٪) فالعنف الأسري من أوائل أسباب السقوط في المخدرات وإدمانها، فالمعنف يبحث عن أي وسيلة تُنسيه واقعه، ولو كانت وسيلة مدمرة لحياته ومستقبله. خامس الآثار السلبية الانحراف الأخلاقي: فثلاثة وسبعون بالمائة (73.0٪) من العينة أكدوا أن العنف سبب رئيس للانحراف الأخلاقي، وهذا من أخطر الآثار وأشدها فتكًا بالأسرة والمجتمع، وهو سبب لأنواع من المنكرات والجرائم، فماذا يبقى للناس إذا تهاوت عروش القيم الأخلاقية، وانتشرت الرذيلة في المجتمع، 

إنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاَقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمُوا ذَهَبَتْ أَخَلاَقُهُمْ ذَهَبُوْا 

كَذَا النَّاسُ بِالأخلاقِ يبقَى صلاحُهُم ويذهبُ عنهم أمرهُم حين تذهَبُ سادس الآثار السلبية للعنف الأسري هو:الفشل الدراسي؛ قاله واحد وسبعون بالمائة من عينة الدراسة (70.8٪) فالذين يمارسون العنف يحكمون بفشل التعليم للمعنفين، سواء شعروا بهذا أو لم يشعروا، وبالتالي فهم يستهدفون نهضة الأمة ورقيها وتمدنها، بل وريادتها وسيادتها.سابع الآثار السلبية للعنف الأسري:الآنحراف السلوكي؛فقد أشار لذلك تسع وستون بالمائة (68.9٪). وثامن الآثار السلبية للعنف الأسري هو: أن يطلِّق الزوج الزوجة؛ أكد ذلك سبعة وستون بالمائة (68.6٪) من المبحوثين. كما أن خمسًا وستين بالمائة منهم (65.0٪) يرون أن تاسع الآثار السلبية للعنف الأسري هو: تمرد الأولاد على آبائهم، وذلك لما يلقونه من عنت وعسف منهم، فالعنف يُهيئ مناخًا خصبًا لبذور التمرد، ويشجع عليه، فالعنف بريد التمرد وأهم أسبابه، فالعنف يولد العنف ويزيده، فالنار لا تخمد بالنار وإنما تخمد بالماء؟ كما يرى أربعة وستون بالمائة (64.1٪) أن عاشر الآثار السلبية للعنف الأسري هو: تغيب الزوج المستمر عن المنزل. هذه عشرة أسباب هامة وخطيرة كنتائج للعنف الأسري أشار إليها نحو الثلثين من المبحوثين، كما أوضح أقل من نصف المبحوثين تقريباً أن هناك آثارًا سلبية أخرى، فنحو ست وأربعين بالمائة (45.6٪) من العينة يرون أن إحداث عاهة مؤقتة أو دائمة هي من الآثار السلبية للعنف، كما جاء في المرتبة الأخيرة القتل للانتقام كأحد الآثار السلبية للعنف الأسري، ذكر ذلك أكثر من أربعة وأربعين بالمائة (44.3٪) من العينة، وهذه الآثار تتوافق عليها الكثير من الدراسات السابقة وتؤيدها. عباد الله! ما تقدم من الآثار السلبية هي أبرز وأشهر الآثار الناجمة عن العنف الأسري، ولو أردنا استقصاء كل أثر سلبي يتسبب به العنف الأسري لطالت بنا القائمة، فآثاره لا حصر لها كما تؤكده نتائج الكثير من الدراسات التي تُبرز كمًا هائلاً من الآثار السلبية للعنف داخل الأسرة، ولا أظن أن هذا يخفى على فطن فما ذكرناه من سلبيات حسب وجهة نظر المبحوثين ليست على سبيل الحصر، بل هي الأكثر شيوعًا أو فداحة وضررًا، وكفى بها نذيراً وجرساً يدق بقوة لينتبه المجتمع لأم المشاكل فمتى تعاون وتكاتف الجميع للوعي والتوعية بخطورة المشكلة وحجمها وآثارها عرف كيف يختصر الطريق في علاج الكثير من مشاكل المجتمع؛ فها أنتم سمعتم وبالأرقام كيف تسبب العنف بكل هذه الآثار السلبية الكارثية والمدمرة للأفراد وللأسر والمجتمعات، أمراض اجتماعية متنوعة تُنذر ببيئة تصيب المجتمع بمقتل، وتعيق تقدمه وتطوره كثيراً، فمن ينكر خطورة كثرة المطلقات، ومن يجهل آثار تفكك الأسرة وانهيارها وتشتت أفرادها بسبب الطلاق، ألسنا نرى ونسمع أضرار انتشار سوء الأخلاق، والانحرافات السلوكية، أليست أضرار الرسوب والفشل الدراسي يئن ويتأوه منه المئات اليوم ممن فقد تعليمهم؟ وعلى من يخفى فداحة هروب البعض من جحيم العنف إلى عالم المخدرات والإدمان؟! والهروب من البيوت والسهر في الاستراحات، أليس كل هذا وغيره من آثار العنف الأسري، فهل نستيقظ ونفعل الأسباب لحماية الأسرة والمجتمع من هذه الأمراض الفتاكة، وأول العلاج الوعي ثم الوعي ومعرفة الواقع بكل شفافية ومكاشفة، فهي الخطوة الأولى والمهمة للحل الأمثل الذي يعالج الجذور ويقضي على الأسباب، فالداء يزداد خطره يومًا بعد يوم، ويتفاقم شره، ويزداد ضحاياه، ومما يزيد المشكلة علة أن البعض بل الكثير منا لم ولن يعترف بأنه يمارس العنف أياً كان نوعه ضد أفراد أسرته، بل هم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأنهم متمسكون بتعاليم الدين، بل ومحترزون من الشبهات والمكروهات، لكنهم لا يرون قسوة تعاملهم وشدة ردود أفعالهم تجاه الآخرين والذين هم كثير من الأحيان أقرب الناس إليهم، فهو لا يدري أن بعض أو كل هذه النتائج السلبية ناجمة عما يقوم به تجاه نفسه وأفراد أسرته ومجتمعه وأمته، هذا أول الحلول وهو الوعي بالمشكلة، أرأيتم إذاً صعوبة الأمر، وأنه يحتاج من الجميع لجهود مضاعفة للوعي والتوعية، ومناقشة أدوائنا الاجتماعية وبعض عاداتنا المخالفة لتعاليم ديننا وشرعنا الحنيف، والتي ربما أخذت شرعيتها من الإلف والشيوع والانتشار والاستمراء، واصطبغت بعضها بصبغة الدين، واكتسبت قدسية إلى درجة أن البعض من العامة يحسب أنها جزء من الدين، أو شيء جاءت به سنة سيد المرسلين، مع أن الدين بريء منها، فما أجمل الرجوع للحق والوقوف على الأسباب والعوامل والنتائج والحلول، وعبر جميع الوسائل المتاحة والتقنيات الحديثة، أيها المؤمنون: هذه الدراسات والأرقام نافذة علمية تقريبية للميدان الذي نعيشه، ولاشك أنها أفضل من مجرد الآراء العابرة أو التخرصات وكثرة القيل والقال والمناقشات، وهي تحتاج منا لشجاعة وجرأة في معرفة مشاكلنا وتشخيصها بشكل علمي لنقف على الطريق الصحيح للإصلاح، فمعرفة الداء بداية الدواء، نسأل الله أن يُصلح أحوالنا، وأن يؤلف بين قلوبنا، ويوحد صفنا، وأن يسلل سخيمة صدورنا، ويطهر قلوبنا وألسنتنا وأعيننا، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.



بصيص الأمل غير متواجد حالياً  رد مع اقتباس
رد مع اقتباس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مشكلات الطلاب الدراسية في المدارس وحلولها ، علاج مشاكل الطلاب

مهارة دراسة الحالة الفردية