العنف الأسري اللفظي
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ. أما بعدُ:عبادَ اللهِ! اتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. عباد الله!كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري معتمدين على دراسة ميدانية متخصصة، وقد بينا في الخطب الماضية أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وأكدنا أنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر متى كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية إليها، وعرجنا في الخطبة الثانية إلى نبذة مختصرة لتاريخ ظاهرة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وسبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وما حجمه في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم في الخطبة الثالثة تناولنا العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف الأسري، وفي الخطبة الرابعة: تحدثنا عنمظاهر وأشكال العنف الأسري التسعة: العنف الجسدي. والعنف الجنسي. والنفسي. واللفظي. والعنف بالإهمال. والعنف الصحي. والعنف الاجتماعي، الاقتصادي. أخيرًا: التاسع من أشكال العنف: العنف الافتراضي، وقد تناولنا بالشرح والتفصيل الشكل الأول والثاني والثالث من أشكال أو مظاهر العنف الأسري بالمملكة، والتي أثبتتها الدراسة الميدانية، هي: لعنف الجسدي والعنف الجنسي، والعنف النفسي، واليوم في الخطبة السابعة: نتحدث عن الشكل الرابع من أشكال العنف الأسري، وهو: العنف اللفظي؛ الذي هو:"كل كلام يوجه إلى الضحية يُقصد منه إيذاءها عن قصد وبشكل متكرر". والذي يؤثر سلبًا على الصحة النفسية للضحية، ويسيء إلى شخصية الفرد وكرامته، ونظرته لذاته،ويشمل: إهانة الكرامة بكلام جارح، والسباب، والشتائم، والسخرية، والتهديد، والتهديد بالفضيحة بهدف الابتزاز، وإطلاق النعوت والتنابز بالألقاب، وقمع الضحية بكلام يمنعها من التعبير وإبداء الرأي، ولا شك أن للعنف اللفظي تأثيرًا كبيرًا على نفسية الضحية، فتأثير الكلمة يفوق تأثير السوط وحد السيف أحيانًا، وبالأخص حينما تكون الضحية طفلاً أو قاصرًا أو امرأة، ألم يقل الشعر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
ويقول الآخر: لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
إن الدراسة الميدانية تشير إلى غفلة الناس عن تأثير الكلمة الجارحة، وما يترتب عليها من عواقب وخيمة وربما كارثية في حياة الضحية، حيث تشير جداول استبيانات الدراسة الميدانية إلى أن هناك اتفاقًا عامًّا على أن العنف اللفظي يحتل (المرتبة الأولى) من حيث الانتشار في جميع مناطق المملكة، ولعل السبب أن العنف اللفظي أسهل أشكال العنف ارتكاباً من قبل أفراد المجتمع، نظراً لأنه لا يترتب عليه مشاكل جنائية كبيرة خاصة إذا ما قورن بأشكال العنف الأخرى والتي قد يعاقب عليها الشرع والقانون. وأما أشكال العنف اللفظي التي أثبتتها الدراسة ميدانياً؛ فيتبيَّن من النتائج أن نحو أربعة وثمانين بالمائة (84٪) أشاروا إلى أن التوبيخ الشديد منتشر؛ وهذا يعني أن الغالبية العظمى من المبحوثين يؤكدون انتشاره. كما ذكر أكثر من ثلاثة وسبعين بالمائة (73.3٪) أن الاستهزاء والتحقير من أشكال العنف اللفظي الأكثر انتشارًا. كما أن أكثر من ثمانية وسبعين بالمائة (78.2٪) أشاروا إلى أن السَّب والشتم واللعن من أشكال العنف اللفظي أنه منتشر. وأما تهديد الزوجة بالطلاق كأحد أشكال العنف اللفظي فيرى أكثر من ثمانية وخمسين بالمائة (58.3 ٪)، كما يُعَدُّ سبّ الأهل كالوالدين وبعض الأقارب أحد أشكال العنف اللفظي حيث ذهب ثلاث وستون بالمائة (63.1٪) من المبحوثين إلى أنه منتشر. أما السَّب أمام الناس لزيادة التحقير والإهانة فمنتشر أيضاً بنسبة اثنين وخمسين بالمائة (51.8٪) من إجمالي مجتمع البحث. وأما استخدام كلمات نابية فيرى أكثر من أربع وخمسين بالمائة (54.4٪) من المبحوثين أنه منتشر. وهكذا معاشر المسلمين والمسلمات تثبت الدراسات وللأسف مدى انتشار أنماط وأشكال من العنف اللفظي من توبيخ، واستهزاء وتحقير، وسب وشتم ولعن، بل حتى سب الأهل والوالدين وبعض الأقارب، وتهديد للزوجة بالطلاق أو الزواج عليها، وغير ذلك من الصور التي ربما كانت أمام الناس وعلى مسامعهم، وعلى الرغم من التفاوت بين كل شكل وآخر من أشكال العنف إلا أنها جميعها تنطوي على فاعلية الإهانة اللفظية، والتي تؤدي تدريجياً إلى أشكال الانفصال الوجداني، وهي مرحلة أساسية من مراحل التطور في العلاقة تنتهي بالعنف الجسدي بكافة أشكاله وأنماطه، وتدل هذه النسب المرتفعة نسبيًا لأشكال العنف اللفظي أن ثقافة المجتمع، وتنشئته أفراده غالبًا ما تؤدي إلى مثل هذه التصرُّفات والتي أصبحت لدى البعض نمطاً حياتياً شائعاً اعتادت عليه الألسن وعلى سماعه الأذان. عباد الله! والله إني لأخجل أن أقول مثل هذا الكلام وهذه الأرقام في مجتمع فطرته دين الإسلام، دين الرحمة والرفق والعطف والمشاعر المرهفة، دين أدبياته الشرعية تزخر بالنصوص المقدسة في خطورة اللسان، والتحذير من الشتائم والسباب واللعان، ثم يحتل العنف اللفظي المرتبة الأولى بين أنماط وأشكال العنف في المجتمع، لكنها الحقيقة التي علينا أن نتقبلها بشجاعة رغم مرارتها، فوصف الداء نصف الدواء كما يُقال، ومعرفة الأسباب تفتح لنا الأبواب؛ ومن أهم الأسباب وأخطرها: ضعف الوازع الديني، فإن لم تكن الفضيلة ذاتية نابعة من نفس صاحبها، وإن كانت ضعفت القيم والعادات والعروبة والرجولة التي كانت من شيم العرب والقبائل والرجال، فإن الرقابة السماوية باقية للأبد شاء من شاء وأبى من أبى، فالدين هو المحرك الأول للقلوب بالترغيب تارة وبالترهيب تارة، وبهما معًا تارات، كيف لا وهو يزن مثاقيل الذر، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، ثم يُعلن المراسيم الدقيقة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} إنها رقابة سماوية لصيقة دقيقة لا تدع أي قول إلا أطبقت عليه وقيدته يؤكده قول المصطفى r في صحيح البخاري وغيره قال: ((وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))، فاحذر أيها الإنسان من اللسان فهو يذهب بصلاتك وصيامك وصدقتك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ:((هِيَ فِي النَّارِ)). قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)). فكم من مصل ومتصدق وصالح غره صلاحه وعمله فأطلق العنان للسان يلعن ويسب ويُهدد ويتوعد ويسخر ويستهزأ، فأحبط عمله وسمعته ورجولته! "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ".وقالr: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". وقال عُقبةُ بنُ عامرٍt: قلتُ يا رسولَ الله! ما النَّجاةُ؟ قالr: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)). وقالr محذرًا«إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ".وعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ r:"يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ..".إنها نصوص لا تحرك القلوب فقط بل تهز الجبال الصم الرواسي لكن بعض القلوب أقسى من الحجر فهي تسمع مثل هذا الوعيد والتهديد ثم لا ترعوي ولا تستجيب؛
احْفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الإِنْسَـانُ لاَ يَلْـدَغَـنَّكَ إِنَّـهُ ثُعْـَبانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيْلِ لِسَانِهِ كَانَتْ تَهَابَ لِـقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
أيها المؤمنون: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} هكذا كان هدي المصطفىrكان غاية في جميل القول والرفق، ولين الجانب وحسن الخلق،فأنسtخدم النبي r عشر سنين ماسمع من النبيrكلمة نابية قط، كما في الحديث المتفق عليه يقول أَنَسٌt:"خَدَمْتُ النَّبِيَّrعَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي:أُفٍّ، وَلَا لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ؟"،{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، هاهوr يوجه عائشة رضي الله عنها لما ردّت على سب اليهود قائلاً:"مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» البخاري. ويقولr:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ: يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ". وفي صحيح مسلم ((وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ".فإذا أردنا علاج العنف اللفظي ومحوه من قواميسنا أو على الأقل الحد من انتشاره، وتقليص حجمه فلنحرك القلوب لتفعيل وازع الدين فيها، وتذكير الناس بحجم خطورة العنف اللفظي، فالكلمة مسؤولية وعلى الإنسان أن يراقب لسانه، ويعوِّده على الكلمة الطيبة النافعة، فها قد سمعتم الكثير وبقي الكثير الكثير من نصوص الدين التي تُحذر وترفض كل أشكال العنف اللفظي وألوانه فـ"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ "، «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، فشتان شتان بين الرفق وبين العنف، فالكلمة الطيبة صدقة تقود للجنة فقد ضمنها رسول اللهr لمن حفظ ما بين لحييه ورجليه "فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، فلا يمكن للإنسان أن يرتقي ويعلو شأنه إلا بطيب الكلام، والبعد عن الغلظة والفظاظة. فهيا عباد الله لمثل هذه المعاني قبل فوات الأوان، هيا لنغرس هذه المعاني النبيلة في نفوس النشء، لندربهم على طيب الكلام، ونحذرهم من الفحش وبذاءة اللسان، هيا لنراقب ألسنتنا وألسنة أولادنا لرفع الوعي ليكون لين الكلام سائدًا في تعاملنا، لنكن قدوات في بيوتنا فالبيت الذي يعلوه الصراخ والسب والشتم سيخرج أجيالاً بنفس التركيبة، وفي المقابل الأب الذي يخاطب والديه بأدب ويُحسن القول معهما ومع زوجته وأبنائه سيخرج أجيالاً ترث نفس المواصفات، وهكذا مع الخدم ومع الجار، وفي البيع والشراء ومع الموظف والوظيفة، ومع الجميع، ولعل من أهم العوامل المؤثرة في هذا التطبيق: أولاً/ التربية الأسرية: فتربية الوالدين لها دور كبير في اكتساب الأطفال سلوكيات آبائهم وأمهاتهم. ثانيًا/ الجو المدرسي:فمتى كان الجو المدرسي منضبطاً من قِبل المدرسين وإدارة المدرسة في متابعة سلوكيات الطلاب، والمسارعة لمعالجة أي ظواهر لفظية غير مناسبة تظهر بين الطلاب، فسيتجنب الطلاب هذه المسالك، وإلا فستنتشر هذه السلوكيات اللفظية السيئة بين الطلاب، وتنعكس على شخصياتهم في المستقبل بوضوح. ثالثًا من العوامل المؤثرة/ الحي: فلا شك أن له أثر كبير في تلقي الأطفال لسلوكيات العنف اللفظي بين الأقران السيئين، وعندها فلا بد من متابعة الأبناء فيمن يخالطون فالقرين بالمقارن يقتدي. وأخيراً خلاصة معالم علاج العنف اللفظي ما يلي:1-التحذير منذ الصغر للأولاد من السلوكيات اللفظية السيئة كألفاظ السب والشتم، وعدم السكوت عليها عندما تصدر من الأولاد، وإظهار عدم الرضى لسماعها، وتحذيرهم من الوقوع فيها مرة أخرى.2-اليقين بأن الألفاظ السيئة ليست من خلق المسلم، ولا من شيم الرجال فلا بد من طلب معالي الأمور وتجنب سفاسفها. 3-ربية النفس على الصبر في التعامل مع المواقف الضاغطة وتجنب الغضب وردود الفعل السريعة وغير العقلانية التي تنتج عنفًا لفظيًّا. 4- بث الوعي بخطورة هذا النوع من العنف، وأن الكلمات الجارحة سهام حادة، تنفذ بعنف إلى النفس وتصيبها بجروح نازفة قد لا تبرأ، وإن شفيت فهي تُخلف ندوباً لا تختفي،"فجرح الكلام أنكى من جرح الحسام". 5- تدبر النصوص الواردة ،والنظر بعمق في سيرة المصطفىr، فقد أثنى الله عليه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
}، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها وطهر ألسنتنا وقلوبنا واغفر لنا وتب علينا، ولا تؤاخذنا بضعفناأقول
ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.
العنف الأسري
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامٌ ... وَلَا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
ويقول الآخر: لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ
إن الدراسة الميدانية تشير إلى غفلة الناس عن تأثير الكلمة الجارحة، وما يترتب عليها من عواقب وخيمة وربما كارثية في حياة الضحية، حيث تشير جداول استبيانات الدراسة الميدانية إلى أن هناك اتفاقًا عامًّا على أن العنف اللفظي يحتل (المرتبة الأولى) من حيث الانتشار في جميع مناطق المملكة، ولعل السبب أن العنف اللفظي أسهل أشكال العنف ارتكاباً من قبل أفراد المجتمع، نظراً لأنه لا يترتب عليه مشاكل جنائية كبيرة خاصة إذا ما قورن بأشكال العنف الأخرى والتي قد يعاقب عليها الشرع والقانون. وأما أشكال العنف اللفظي التي أثبتتها الدراسة ميدانياً؛ فيتبيَّن من النتائج أن نحو أربعة وثمانين بالمائة (84٪) أشاروا إلى أن التوبيخ الشديد منتشر؛ وهذا يعني أن الغالبية العظمى من المبحوثين يؤكدون انتشاره. كما ذكر أكثر من ثلاثة وسبعين بالمائة (73.3٪) أن الاستهزاء والتحقير من أشكال العنف اللفظي الأكثر انتشارًا. كما أن أكثر من ثمانية وسبعين بالمائة (78.2٪) أشاروا إلى أن السَّب والشتم واللعن من أشكال العنف اللفظي أنه منتشر. وأما تهديد الزوجة بالطلاق كأحد أشكال العنف اللفظي فيرى أكثر من ثمانية وخمسين بالمائة (58.3 ٪)، كما يُعَدُّ سبّ الأهل كالوالدين وبعض الأقارب أحد أشكال العنف اللفظي حيث ذهب ثلاث وستون بالمائة (63.1٪) من المبحوثين إلى أنه منتشر. أما السَّب أمام الناس لزيادة التحقير والإهانة فمنتشر أيضاً بنسبة اثنين وخمسين بالمائة (51.8٪) من إجمالي مجتمع البحث. وأما استخدام كلمات نابية فيرى أكثر من أربع وخمسين بالمائة (54.4٪) من المبحوثين أنه منتشر. وهكذا معاشر المسلمين والمسلمات تثبت الدراسات وللأسف مدى انتشار أنماط وأشكال من العنف اللفظي من توبيخ، واستهزاء وتحقير، وسب وشتم ولعن، بل حتى سب الأهل والوالدين وبعض الأقارب، وتهديد للزوجة بالطلاق أو الزواج عليها، وغير ذلك من الصور التي ربما كانت أمام الناس وعلى مسامعهم، وعلى الرغم من التفاوت بين كل شكل وآخر من أشكال العنف إلا أنها جميعها تنطوي على فاعلية الإهانة اللفظية، والتي تؤدي تدريجياً إلى أشكال الانفصال الوجداني، وهي مرحلة أساسية من مراحل التطور في العلاقة تنتهي بالعنف الجسدي بكافة أشكاله وأنماطه، وتدل هذه النسب المرتفعة نسبيًا لأشكال العنف اللفظي أن ثقافة المجتمع، وتنشئته أفراده غالبًا ما تؤدي إلى مثل هذه التصرُّفات والتي أصبحت لدى البعض نمطاً حياتياً شائعاً اعتادت عليه الألسن وعلى سماعه الأذان. عباد الله! والله إني لأخجل أن أقول مثل هذا الكلام وهذه الأرقام في مجتمع فطرته دين الإسلام، دين الرحمة والرفق والعطف والمشاعر المرهفة، دين أدبياته الشرعية تزخر بالنصوص المقدسة في خطورة اللسان، والتحذير من الشتائم والسباب واللعان، ثم يحتل العنف اللفظي المرتبة الأولى بين أنماط وأشكال العنف في المجتمع، لكنها الحقيقة التي علينا أن نتقبلها بشجاعة رغم مرارتها، فوصف الداء نصف الدواء كما يُقال، ومعرفة الأسباب تفتح لنا الأبواب؛ ومن أهم الأسباب وأخطرها: ضعف الوازع الديني، فإن لم تكن الفضيلة ذاتية نابعة من نفس صاحبها، وإن كانت ضعفت القيم والعادات والعروبة والرجولة التي كانت من شيم العرب والقبائل والرجال، فإن الرقابة السماوية باقية للأبد شاء من شاء وأبى من أبى، فالدين هو المحرك الأول للقلوب بالترغيب تارة وبالترهيب تارة، وبهما معًا تارات، كيف لا وهو يزن مثاقيل الذر، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ*وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، ثم يُعلن المراسيم الدقيقة {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} إنها رقابة سماوية لصيقة دقيقة لا تدع أي قول إلا أطبقت عليه وقيدته يؤكده قول المصطفى r في صحيح البخاري وغيره قال: ((وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))، فاحذر أيها الإنسان من اللسان فهو يذهب بصلاتك وصيامك وصدقتك فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا. قَالَ:((هِيَ فِي النَّارِ)). قَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَإِنَّ فُلَانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالْأَثْوَارِ مِنْ الْأَقِطِ وَلَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)). فكم من مصل ومتصدق وصالح غره صلاحه وعمله فأطلق العنان للسان يلعن ويسب ويُهدد ويتوعد ويسخر ويستهزأ، فأحبط عمله وسمعته ورجولته! "لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ، وَلَا اللَّعَّانِ، وَلَا الْفَاحِشِ، وَلَا الْبَذِيءِ".وقالr: "الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ". وقال عُقبةُ بنُ عامرٍt: قلتُ يا رسولَ الله! ما النَّجاةُ؟ قالr: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)). وقالr محذرًا«إِيَّاكُمْ وَالْفُحْشَ، فَإِنَّ اللَّهَ
لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ، وَلَا التَّفَحُّشَ".وعَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ r:"يَا أَبَا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ..".إنها نصوص لا تحرك القلوب فقط بل تهز الجبال الصم الرواسي لكن بعض القلوب أقسى من الحجر فهي تسمع مثل هذا الوعيد والتهديد ثم لا ترعوي ولا تستجيب؛
احْفَظْ لِسَانَكَ أَيُّهَا الإِنْسَـانُ لاَ يَلْـدَغَـنَّكَ إِنَّـهُ ثُعْـَبانُ
كَمْ فِي الْمَقَابِرِ مِنْ قَتِيْلِ لِسَانِهِ كَانَتْ تَهَابَ لِـقَاءَهُ الشُّجْعَانُ
أيها المؤمنون: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} هكذا كان هدي المصطفىrكان غاية في جميل القول والرفق، ولين الجانب وحسن الخلق،فأنسtخدم النبي r عشر سنين ماسمع من النبيrكلمة نابية قط، كما في الحديث المتفق عليه يقول أَنَسٌt:"خَدَمْتُ النَّبِيَّrعَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي:أُفٍّ، وَلَا لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلَا أَلَّا صَنَعْتَ؟"،{وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، هاهوr يوجه عائشة رضي الله عنها لما ردّت على سب اليهود قائلاً:"مَهْلًا يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ، وَإِيَّاكِ وَالعُنْفَ وَالفُحْشَ» البخاري. ويقولr:«إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ: يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ". وفي صحيح مسلم ((وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ".فإذا أردنا علاج العنف اللفظي ومحوه من قواميسنا أو على الأقل الحد من انتشاره، وتقليص حجمه فلنحرك القلوب لتفعيل وازع الدين فيها، وتذكير الناس بحجم خطورة العنف اللفظي، فالكلمة مسؤولية وعلى الإنسان أن يراقب لسانه، ويعوِّده على الكلمة الطيبة النافعة، فها قد سمعتم الكثير وبقي الكثير الكثير من نصوص الدين التي تُحذر وترفض كل أشكال العنف اللفظي وألوانه فـ"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ "، «إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، فشتان شتان بين الرفق وبين العنف، فالكلمة الطيبة صدقة تقود للجنة فقد ضمنها رسول اللهr لمن حفظ ما بين لحييه ورجليه "فَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ"، فلا يمكن للإنسان أن يرتقي ويعلو شأنه إلا بطيب الكلام، والبعد عن الغلظة والفظاظة. فهيا عباد الله لمثل هذه المعاني قبل فوات الأوان، هيا لنغرس هذه المعاني النبيلة في نفوس النشء، لندربهم على طيب الكلام، ونحذرهم من الفحش وبذاءة اللسان، هيا لنراقب ألسنتنا وألسنة أولادنا لرفع الوعي ليكون لين الكلام سائدًا في تعاملنا، لنكن قدوات في بيوتنا فالبيت الذي يعلوه الصراخ والسب والشتم سيخرج أجيالاً بنفس التركيبة، وفي المقابل الأب الذي يخاطب والديه بأدب ويُحسن القول معهما ومع زوجته وأبنائه سيخرج أجيالاً ترث نفس المواصفات، وهكذا مع الخدم ومع الجار، وفي البيع والشراء ومع الموظف والوظيفة، ومع الجميع، ولعل من أهم العوامل المؤثرة في هذا التطبيق: أولاً/ التربية الأسرية: فتربية الوالدين لها دور كبير في اكتساب الأطفال سلوكيات آبائهم وأمهاتهم. ثانيًا/ الجو المدرسي:فمتى كان الجو المدرسي منضبطاً من قِبل المدرسين وإدارة المدرسة في متابعة سلوكيات الطلاب، والمسارعة لمعالجة أي ظواهر لفظية غير مناسبة تظهر بين الطلاب، فسيتجنب الطلاب هذه المسالك، وإلا فستنتشر هذه السلوكيات اللفظية السيئة بين الطلاب، وتنعكس على شخصياتهم في المستقبل بوضوح. ثالثًا من العوامل المؤثرة/ الحي: فلا شك أن له أثر كبير في تلقي الأطفال لسلوكيات العنف اللفظي بين الأقران السيئين، وعندها فلا بد من متابعة الأبناء فيمن يخالطون فالقرين بالمقارن يقتدي. وأخيراً خلاصة معالم علاج العنف اللفظي ما يلي:1-التحذير منذ الصغر للأولاد من السلوكيات اللفظية السيئة كألفاظ السب والشتم، وعدم السكوت عليها عندما تصدر من الأولاد، وإظهار عدم الرضى لسماعها، وتحذيرهم من الوقوع فيها مرة أخرى.2-اليقين بأن الألفاظ السيئة ليست من خلق المسلم، ولا من شيم الرجال فلا بد من طلب معالي الأمور وتجنب سفاسفها. 3-ربية النفس على الصبر في التعامل مع المواقف الضاغطة وتجنب الغضب وردود الفعل السريعة وغير العقلانية التي تنتج عنفًا لفظيًّا. 4- بث الوعي بخطورة هذا النوع من العنف، وأن الكلمات الجارحة سهام حادة، تنفذ بعنف إلى النفس وتصيبها بجروح نازفة قد لا تبرأ، وإن شفيت فهي تُخلف ندوباً لا تختفي،"فجرح الكلام أنكى من جرح الحسام". 5- تدبر النصوص الواردة ،والنظر بعمق في سيرة المصطفىr، فقد أثنى الله عليه بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ
}، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها وطهر ألسنتنا وقلوبنا واغفر لنا وتب علينا، ولا تؤاخذنا بضعفناأقول
ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ.
العنف الأسري
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاةُ والسلامُ على من بعثه الله بالحنيفية السمحة رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهِ واتَّبعَ سنتهُ إلى يومِ الدينِ.أما بعدُ: عبادَ اللهِ! اتقوا الله حقيقة التقوى، واعلموا أن حقيقتها بمراقبة الله في سلوكنا وتصرفاتنا، بأقوالنا وأفعالنا، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}. عباد الله!كنا قد بدأنا الحديث عن مشكلة العنف الأسري معتمدين على دراسة ميدانية متخصصة، وقد بينا في الخطب الماضية أهمية الأسرة، وعظيم قدرها ومكانتها في تربية الأجيال وتخريج الرجال، وأكدنا أنه بصلاح الأسر تصلح المجتمعات، وبفسادها تفسد لا محالة، وأن الأسر متى كانت حصينة متينة، متماسكة مترابطة يصعب اختراقها، ووصول الأمراض الاجتماعية إليها، وعرجنا في الخطبة الثانية إلى نبذة مختصرة لتاريخ ظاهرة العنف الأسري، ومراحلها المتعددة التي مرت بها، وسبب تنامي الاهتمام العالمي بالعنف الأسري، وما حجمه في العالم عمومًا، وفي المملكة خصوصًا، ثم في الخطبة الثالثة تناولنا العوامل والأسباب المؤدية إلى العنف الأسري، وفي الخطبة الرابعة: تحدثنا عن مظاهر وأشكال العنف الأسري التسعة: العنف الجسدي. والعنف الجنسي. والنفسي. واللفظي. والعنف بالإهمال. والعنف الصحي. والعنف الاجتماعي، الاقتصادي. وأخيرًا: التاسع من أشكال العنف: العنف الافتراضي، وقد تناولنا بالشرح والتفصيل الشكل الأول والثاني من أشكال أو مظاهر العنف الأسري بالمملكة، والتي أثبتتها الدراسة الميدانية، وهما: العنف الجسدي والعنف الجنسي، واليوم في الخطبة السادسة: سنتحدث عن الشكل الثالث من أشكال العنف الأسري، وهو: العنف النفسي؛ والذي يُعرّف بأنه: كل ما يسبب أذًى معنويًا للضحية يمارسه أقارب تجاه أقاربهم فهو يُعد عنفًا نفسيًّا أسريًّا، كترويع الضحية وإخافتها، وممارسة ضغوط نفسية عليها، أو عزلها وعدم الحديث إليها، ومنعها من الكلام، ومنعها من الخروج، ويشمل أيضًا: هجر الزوج زوجته، أو الزوجة زوجها دون عذر شرعي، والْحَجر على التصرف بدون وجه حق، والخيانة الزوجية؛ ومن صور العنف النفسي أيضًا: الحرمان من حق مشروع، كحرمان المطلَّقة من رؤية أبنائها، أو حرمان الزوجة من زيارة أقاربها واستقبالهم، أو حرمان الطفل من رؤية أحد والديه بسبب الطلاق أو الانفصال، أو إجبار بعض أفراد الأسرة إلى قطع صلة الرحم مع أقارب بهدف إيذاء أحد الأطراف أو الطرفين، وباختصار: العنف النفسي هو: كل قول وفعل من شأنه التحقير أو الإهانة أو منع حق ونحوه، ولا شك أنها أعمال محرمة شرعًا، ومرفوضة عقلاً، وضارة ومضرة للأفراد والمجتمعات، ولا أحد يرضى بالضرر لنفسه ولا لغيره؛ والله تعالى يقول: {لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ}. ويقول r: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»، ومن المؤسف يا عباد الله! أن تفشي مثل هذه الصور أمر مشاهد وملموس، تؤكده النسب العالية من الأرقام والإحصاءات لأمراض الاكتئاب والانطواء والقلق وسائر الأمراض النفسية المنتشرة، فنحن نعيش في عصر يعج بممارسة هذا النوع من العنف، والذي له أضرار كبيرة وخطيرة، بل له نتائج وخيمة في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، ومثل هذه الأساليب يستخدمها البعض بغية الضغط والتأثير على الآخرين، وإخافتهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، من أجل الانصياع له ولطلباته لتحقيق أهدافهم ومآربهم، فالعنف النفسي صورة من صور القهر ضد الآخرين كوسيلة متاحة من وسائل الضغط بفعل عوامل نفسية قد يتعرض لها المُعنِّف من قبل المجتمع؛ كضغوط العمل، والضغوط المادية والاقتصادية، وقضايا الاستهلاك والدخل ومستوى المعيشة، وغيرها من الأسباب التي تدفع الإنسان إلى ممارسة هذا النوع من العنف. وقد أظهرت نتيجة استبانة الدراسة أن ثلاث مناطق من بين خمس مناطق في المملكة اتفقت على أن العنف النفسي يمثِّل المرتبة الثانية في الانتشار، وهو يأتي بعد العنف اللفظي مباشرة، مما يعني أن هذا النوع من العنف منتشر إلى حد كبير، وبأشكال وأنماط متعددة؛ فقد أظهرت نتائج الدراسة أن نحو اثنين وسبعين بالمائة (72٪) من إجمالي مجتمع البحث يرون أن قمع الأبناء أو الزوجة وعدم تركهم يعبرون عن مشكلاتهم بحرِّية كأحد أشكال العنف النفسي منتشر. كما تُظهر النتائج الميدانية أن نحو ستة وخمسين بالمائة (56٪) يرون أن حرمان الزوجة من رؤية بعض الأقارب أو زيارتهم منتشر. كما توضح النتائج أيضًا أن ما نسبته تسعة وأربعون بالمائة (49٪) ذهبوا إلى أن عدم الحديث مع بعض أفراد الأسرة بهدف هجره منتشر كأحد أشكال العنف النفسي. وأشار أكثر من ثمانية وعشرين بالمائة (28.3٪) إلى أن هجر الزوجة من قِبَل الزوج لإيذائها نفسيًا منتشر جدًا، بينما نحو أربعين بالمائة لا يعلمون أو يرون أنه نادر جدًّا. وتُبيِّن النتائج أن أكثر من خمسة وعشرين بالمائة (25.6٪) أشاروا إلى أن تخويف بعض أفراد الأسرة وترويعه كأحد أشكال العنف النفسي منتشر جدًا، مقابل ثلاثة عشر بالمائة (12.9٪) أشاروا إلى أنه نادر جدًا. وهكذا إخوة الإيمان تؤكد الأرقام وجود أشكال متعددة للعنف النفسي، لعلكم تلاحظون أن العامل المشترك بين هذه الصور هو تسلط البعض من الذكور وإن لم يشعروا بذلك، حيث يشب الأفراد على تعلُّم أنماط سيئة دون أن يدركوا أنها كذلك، وربما نتيجة لفهم خاطئ للقوامة الشرعية التي لا يجوز للرجل أن يتنازل عنها بل يأخذها بحقها من الأمانة والمسئولية خلاصتها: (قوة في الدين، وشدة في لين) فـ«إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ»، و«مَنْ يُحْرَمُ الرِّفْقَ يُحْرَمُ الْخَيْرَ كُلَّهُ»، هكذا توجيه المربي والمعلم الأول بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فلاشك أن العلاج والقضاء على هذا النوع من العنف يكمن في التربية،فالدافع الرئيس لهذا النوع من العنف هو: الاستعلاء، ونظرة الدونية للغير، فإذا استطعنا استئصال هذه الفكرة المريضة من عقلية الناس وثقافتهم فقد قضينا على هذا النوع من العنف على مستوى الجذور، وعالجناه على مستوى الأسباب، فالفرد منا حين يعتقد جازماً أن للآخرين حقوقًا مثله، وأنه ليس هناك أحد فوق الشريعة والنظام والقانون حتى ولو كان مسئولاً كبيرًا، أو رئيسًا للأسرة، أباً أو أخاً أو زوجًا ونحوهم، فليس له التضييق على الآخرين، أو ممارسة العنف النفسي عليهم، فهو لا يرضى أن يُضيق عليه أحد أو يُعذَّب نفسيًّا من قبل آخرين، فإذا كان لا يرضى لنفسه فكيف يرضاه لغيره؟ وما أروع ما قاله الإمام الحافظ أبو سليمان الخطابي:
ارضَ للناسِ جميعًا مثلَ ما ترضى لنفسِكْ
إِنما الناسُ جميعاً كُلُّهمْ أبناءُ جنسكْ
غير عدل أن تَوَخَّى وحشةَ الناس بأُنسكْ
فلهم نفسٌ كنفسِكَ ولهم حِسٌّ كحِسِّكْ
عباد الله! إن أخطر ما يهدد الاستقرار الأسري هو العنف النفسي والكبت، وعدم السماح للبوح بالمشاعر التي تختلج في صدر أحد أفراد الأسرة، مما يسبب تخزين المشاكل، ومن ثَمّ تضخيمها، وربما انفجارها في أي لحظة، ولذا يعتبر العنف النفسي مجالاً خصبًا، ومصدرًا كبيرًا لأنواع من العنف، فالعنف كما يقولون يولِّد العنف، وبالاحترام المتبادل، ونشر ثقافة الحوار الهادئ، ومعرفة حقوق الآخرين وحريتهم لممارسة حياتهم الاعتيادية مادامت في غير سخط الله، ولم تتجاوز الحرام والمحظور، فكل هذه أمور ومعانٍ رائعة تقضي على العنف النفسي وتقوض أركانه، فمن هذا المنبر أدعو الجميع لنشر معرفة الحقوق والواجبات، فكلٌ يتمتع بحقوقه، ويؤدي ما عليه من واجبات، وهنا لا أحنث إن أقسمت أننا لو طبقنا هذا المبدأ لم نترك من الخير مطلبًا، ولم ندع للشرور مجالاً، بل حزنا الخير بحذافيره، ولنا برسولنا e أسوة، فلنقرأ كيف كانت معاملته لأصحابه وآل بيته وأزواجه، وكيف كان يحترمهم ويحترم مشاعرهم النبيلة ويراعيها، لقد عَجب شراح حديث أم زرع لحسن خلق النبيe بصمته وإصغائه واستماعه تلك القصة الطويلة من عائشة بدون مقاطعة أو ملل، ثم قولهr لعائشة في نهايتها: "كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لِأُمِّ زَرْعٍ" أي: في الوفاء والاحترام وحسن المعاملة، فقد كان أبو زرع مع أم زرع بهذه الصورة. فكان الرد الجميل والذكي من عائشة رضي الله عنها كما في بعض الروايات بأنها قالت: "بأبي أنت وأمي يا رسول الله! بل أنت خير إليَّ من أبي زرع لأم زرع؟" يقول الحافظ ابن حجر:"وفي الحديث من الفوائد: مداعبة الرجل أهله، وإعلامه بمحبته لها، ما لم يؤدّ ذلك إلى مفسدة تترتب على ذلك من تجنيها عليه، وإعراضها عنه". إخوة الإيمان! إنَّ دينكم الإسلام بلغ الكمال في هذا المجال كما بلغه في كل مجال، علمه من علمه وجهله من جهله، فإنك لتعجبُ ولا ينقضي العَجَب من عَظَمَةِ هذا الدينِ ودِقَّة مراعاتِهِ للمشاعِرِ والعواطِف والأحاسيس، وحرصِهِ على نَشرِ المحبَّةِ والمودَّة. فهناك عشرات الأدلة في هذا الباب! اسمعوا مثلاً لهذا الحديثِ فعن عائشةَ رضي اللهُ عنها قالت، قال النبي r:"إذَا أَحْدَثَ أحدُكم في صلاتِهِ فليأخُذ بأنفِهِ ثم ليَنصَرِف". أتدرون لماذا يأخذُ بأنفه، وما علاقةُ الأنفِ بما صنع؟ إنها عظمةُ أدب هذا الدِّين، ودقَّة العناية بمشاعرِ النفسِ، والحفاظ على أحاسيسها، يأخذُ بأنفِه ليوهِمَ من بجوارهِ أنَّ به رعافاً فلا يفتضحُ أمرُهُ فيُحرَج ويخجَل! قال الخطابيُّ في شرح الحديث: "إنَّما أمرَهُ أن يأخذُ بأنفه ليوهِمَ القومَ أنَّ به رُعافًا، وفي هذا البابِ من الأخذِ بالأدبِ في سَترِ العورةِ وإخفاءِ القبيحِ والتوريةِ بما هو أحسنُ منه، وليس يدخل في بابِ الرِّياءِ والكَذِبِ، وإنما هو من بابِ التجمُّلِ واستعمَالِ الحياءِ، وطلبِ السَّلامةِ من الناس". يا الله! ياله من دين عظيم، لو أخذ به أهله، فالإسلام دين يأمر بالإحسان لكل شيء حتى مع الحيوان، كما قال رسولُ اللهr: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ؛ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ". فإنْ كانتِ الرَّحمةُ والإحسانُ تصِلُ إلى هذهِ الدَّرجةِ من الرِّفقِ وحسنِ التعاملِ حتى معَ الحيوانِ عند ذبحه، فكيف بالرَّحمة والإحسانِ مع بني الإنسان. سبحان الله دين يراعي المشاعر والأحاسيس حتى مع الحيوان إلى هذا الحد كيف يُتوقع أن يمارس البعض من أفراده العنف النفسي والعذاب الوجداني مع الآخرين! وربما مع أقرب الناس إليه من زوج أو فلذات أكباد. أيها الإخوة والأخوات: تأملوا وقفوا طويلاً مع هذا الموقف، فمن المعلوم أن من ألد أعداء الرسول والمسلمين أبو جهل حتى لقبه النبي r بفرعون هذه الأمة لشدة عداوته ونكايته بالمسلمين، وابنه عكرمةُ بن أبي جَهْل، وَرِثَ عداوةَ الإسلامِ عن أبيه، وقاتَلَ المسلمين في كلِّ موطِنٍ، وتصدَّى لهم يومَ فتحِ مَكَّة، ثم فَرَّ إلى اليَمَن، بعد أن أَهدَرَ النبي rدمَه، فتأتي زوجُه أمُّ حكيم بعدَ إسلامها لرسولِ الله تطلبُ الأمانَ لزوجِها فيقولُ لها بأبي هُو وأمّي: "هُوَ آمِن". ولا يكتفي رسول الرحمة بهذا القدر من اللطف والعفو والسماحة لعدو آذى المسلمين كثيرًا، بل ها هو e يؤمنه حتى من العنف النفسي، ومن العذاب الوجداني، يُراعي مشاعره وأحاسيسه فيقول موصيًا أصحابه أن يترفعوا عن الأحقاد وفتح الملفات القديمة التي يضر فتحها ولا ينفع: ((يأتيكُم عكرمةُ بن أبي جَهل مؤمناً مهاجراً، فلا تسبُّوا أباه، فإنَّ سبَّ الميِّتِ يؤذي الحيَّ ولا يبلُغ الميِّت))، فيأتي عكرمةُ بين يدي المصطفىr، ويجد عنده الحضن الدافئ، والرحمة الحانية، والمعاملة الراقية رغم كل ما بدر منه ومن أبيه! فلم يجد بدًّا أمام هذه العظمة في الأخلاق والآداب إلا أن يعلن أمام الملأ فيقول: "أشهَدُ أنَّ لا إله إلا الله، وأنَّك عبدُه ورسولُه، وأنتَ أبرُّ النَّاس، وأصدَقُ الناس، وأوفى النَّاس، أما والله يا رسولَ الله لا أدَعُ نفقةً كنتُ أنفقُها في الصَّدِّ عن سبيلِ اللهِ إلا أنفقتُ ضعفهَا في سبيلِ الله، ولا قاتلتُ قتالاً في الصدِّ عن سبيلِ الله إلا أبليتُ ضعفَهُ في سبيلِ الله"! سبحان الله! لمسةٌ حانيةٌ من نبيِّ الرحمة r نقلَتْ ابنَ فرعون هذِهِ الأمَّةِ إلى صفِّ أولياءِ الرَّحمن، وجعلته يندَم هذا النَّدَمَ، ويعزِم هذا العزمَ، ويتحوَّل هذا التَّحوُّلَ، إنَّها الأخلاقُ تصنعُ الأعاجيبَ! أيها المؤمنون: أرقام وإحصاءات، وشواهد وصور ميدانية، ونصوص ومواقف نبوية، لا يملك معها المسلم العاقل إلا أن يُراجع نفسه وتصرفاته وحقوق الآخرين ممن هم أمانة في عنقه وحمله الله مسئوليتهم، {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}، وأخيرًا والمهم في الباب: كيف نسمو بمشاعرنا، وكيف نقهر أنفسنا الأمارة بالسوء، فلا نسمح لها بإيذاء الآخرين سواء بدنيًّا أو نفسيًّا، وكثيرًا ما تكون الثانية أكثر إيلامًا وأقسى من الأولى. اللهم زَكِّ أنفسَنا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، وآتها صلاحها وتقواها، رب أعنا وتب علينا وارحمنا، اللهم اجعلنا من الرحماء، وارزقنا الرفق واللطف، وأعنا على أنفسنا، ولا تكلنا إليها أو لأحد من خلقك طرفة عين، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ فاستغفروهُ
|
تعليقات
إرسال تعليق